إنثيالات في حضرة سعدي المالح

هيثم بهنام بردى|ملبورن/ أستراليا

  • إنثال – إنثيال    (ث، و، ل)
  • ت- عليه العبارات: (تتابعت كثيرة فلم يدر بإيها يبدأ)

                      الرائد – المعجم اللغوي الأحدث والأسهل/ جبران مسعود

محطات

المحطة الأولى: 1973.

ثمة مدن تكون الشاهد على تواشج وتآصر أخيلات ورؤى، ويتشكل هذا التماهي في الذائقة حالما تتلاقى الوجوه للمرة الأولى، وهذا ما حدث بالضبط شتاء عام 1973 في مدينة الموصل.

كان شقيقي زهير مسؤولاً عن تمويل زادنا المعرفي بعد أن كنا نقتطع جزءاً من مصروفنا اليومي الذي كان يغدق علينا به الوالد (رحمه الله) بسخاء، فكان زهير يجلب الى غرفتنا التي تتسامق في الطابق العلوي لبيت موصلي عتيق في حي الميدان المعتق بجّمار الزمن القشيب، الذي يغفو على كتف دجلة المعطاء كل حين وكل ساعة وكل دقيقة، وكان أبي موظفاً في مصرف الرافدين وزهير طالباً في معهد إعداد المعلمين وأنا في معهد الصحة العالي، وكل ظهيرة كان زهير يجلب لنا المجلات والصحف، ومن بين الصحف كانت تستهويني صحيفة صفحتها الثقافية كانت تزخر بالعميق والثر من الإبداع، اسمها (طريق الشعب)، وفي يوم ما قرأت قصة قصيرة لقاص اسمه سعدي المالح، فسألت زهير.

  • هل تعرف هذا القاص؟

أجابني زهير بثقة.

  • أجل، وأعرف أين يسكن.

قلت له.

  • أريد أن التقي به كي أناقشه حول قصته المنشورة هذا اليوم في الصحيفة.

أكد زهير.

  • اليوم عصراً سنلتقي به.

وبعد ساعتين كان زقاق جانبي من شارع الدواسة الشهير يحتوينا، وأمام بيت يشكل مع قرائنه في اليمين واليسار وما يقابله معالم بيوت المدينة القديمة بطرازها الجميل، قبض زهير على أكرة حديدية مجبولة على شكل كف مضمومة، فانفتح الباب عن وجه مألوف مبتسم ، رحب زهير ثم نظر صوبي فبادره زهير قائلاَ.

  • أخي هيثم.

وفي الغرفة العلوية التي يقاسمه في سكنها طالب جامعي من أهل الكوت يقاسم سعدي نفس المقعد في جامعة الموصل، تناقشت مع سعدي عن القصة والرواية، وقبل أن نغادر سألني سعدي.

  • أتكتب القصة؟

أجبته بتوجس.

  • لي محاولات في الكتابة.

المحطة الثانية: 2008

حين زرته في بلدته عنكاوا التي عشقها حد التدله والإنصهار، بعد أن توطدت صداقتي معه بعد أوبته بشكل نهائي من كندا عام 2005، لأهنئه بمنصبه الجديد كمدير عام للمديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في إقليم كوردستان، وأهديته إصداري القصصي الجديد (التماهي) الصادر عن دار الشؤون الثقافية، أهداني بدوره روايته (في انتظار فرج الله القهار) الصادرة بطبعتها الثانية عن دار الفاربي في عام 2006، غب صدورها بطبعة أولى عن دار بورسيبا في الإمارت العربية المتحدة عام 2002، وحالما وصلت بغديدا مدينتي السليبة الآن، أتممت قراءتها بثلاث ساعات، انذهلت وصُدمت….، إنذهلت للمستوى الفني المتقدم الذي صاغ بها المالح رواية مختلفة وجرأته في تناول ثيمة قلما يخوض غمارها الروائيون العراقييون، بيد أنه وبشجاعة يُحسد عليها وببنيان فني راقٍ شيّد وجعاً عراقياً خالصاً، وصدمت ان تمر هذه الرواية مرور الكرام في الذائقة القرائية والنقدية في العراق وخارجه، فهاتفته على الفور وسألته.

  • هل وزعت الرواية على أدباء العراق؟.

أجابني بلهجة حزينة.

  • تعرف أني انقطعت فترة تنيف على الثلاثة عقود عن العراق، والمشهد الثقافي الآن غير محدد المعالم في رؤاي.
  • غداً صباحاً سأكون عندك.
  • أهلا وسهلا بك في أي وقت هيثم.
  • أريد أكثر من خمسين نسخة.
  • موجودة..

وسألني.

  • لماذا؟
  • كي أتولى توزيعها على أدباء العراق. هذه الرواية يجب أن تروّج لأنها من الروايات العراقية المائزة.

…. وبعد أشهر قليلة كتبت العديد من البحوث والدراسات النقدية عن الرواية التي بوأتها في مكانها الحقيقي، وعًدت من الروايات العراقية المهمة التي صدرت في العقود الأخيرة.

ومن النقاد الذين درسوا هذه الرواية: أ.د محمد صابر عبيد، د. فيصل النعيمي، د. خليل شكري هياس، محمد شاكر السبع، د. نبهان حسون السعدون، حامد فاضل، د. علي صليبي المرسومي،….. وغيرهم.

المحطة الثالثة:  2013 عمكا

النجاح الذي أصابته رواية (في انتظار فرج الله القهار) جعلتني أصر وأنا أهمس لصديقي الأثيري سعدي… أن من يكتب رواية بهذا المستوى المتقدم، لا بد أن يعزّز مكانته المميزة  في سفر السرد الروائي العراقي برواية أخرى موازية لها إن لم تتقدم عليها، وكان – قطعاً- بحجم المسؤولية حين أقدم عام 2013 وضمن منشورات ضفاف اللبنانية على إصدار روايته الجديدة (عمكا) التي أكدّ في غلافها الأخير الناقد الأستاذ الدكتور محمد صابر عبيد بأنها (تنتمي إلى سرد ما بعد الحداثة، فهي رواية سيرمكانيّة تحتفل بالمكان من حيث كونه ذاكرةً وراهناً ومصيراً، المكان القادم من حاضنة الأسطورة والموروث والدين والتاريخ والجغرافيا والحلم، إذ يتجّلى في رؤيا السرد الروائيّ بوصفه سفراً إنسانياً لا يمكن محوه مهما تعرّض لقسوة الزمن، ومن هنا تشكّل السرد الروائيّ في هذه الرواية بقوّة تكثيفٍ واحتشادٍ واكتظاظٍ عاليةٍ ومثمرةٍ.) وحال صدورها تلقفتها الذاكرة النقدية في أكثر من بحث ودراسة نقدية.

المحطة الرابعة: وزارة الثقافة.     

  كثيرا ما نما إلى مساعي عبارة يرددها  الأدباء والمثقفون مفادها: سعدي المالح هو عبارة عن وزارة للثقافة. فكنت أفكر مع نفسي، هل يحق لنا أن نقول هذا؟، وعلى أية مدلولات وبراهين نستند في هكذا افتراض؟، وما هي المعطيات التي جعلتنا نحكم هكذا حكم…؟

بعيداً عن المقارنات التقليدية، نقول: أن الذي جعل المبدعين يستنتجون هذا الافتراض، ما اجترح هذا الرجل من انجازات تعد بالمقاييس المعروفة شبه مستحيلة لو أجرينا معادلة بين الفترة الزمنية لإدارته والفعاليات العديدة التي انجزها، وهي لا تتعدى سنيناً خمس، وهم محقون فعلاً أمام هذا الكم الكبير من الفعاليات الإبداعية التي انبثقت وتحققت بجهده الفذ، ونستطيع ان نؤيد هذا الإفتراض لو ألفينا نظرة مختصرة على انجازاته. ولو أدخلناها لمشغل التحقيق الصحفي ما اكتفت صفحات عديدة ولحلقات عديدة بإحصاء والإحاطة بمنجزات المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في اقليم  كوردستان العراق، وباختصار سنجمل بعضا من الفعاليات الثقافية التي أقيمت في عهده:

  1. استضافة شخصيات معرفية وثقافية مهمة لها بصمتها في الحياة الثقافية العراقية والعربية والعالمية وإقامة الفعاليات الثقافية لها.
  2. العشرات من الأمسيات الشعرية التي استضافت فيها المديرية العشرات من الأسماء الشعرية العالمية والعربية والعراقية.
  3. إقامة العشرات من المهرجانات والملتقيات في شتى منابت الأدب والفن بكافة تفرعاته.
  4. إقامة العديد من الدورات الإعلامية والتراثية والآثارية.
  5. إقامة الورش الخاصة بالإعلام والتراث والفن التشكيلي.
  6. اقامة دورات خاصة بتعلم اللغات، الإنكليزية والسريانية والكوردية.
  7. العشرات من المعارض التشكيلية والفوتوغرافية لفناني ومصوري العراق سواء كانت على شكل معارض شخصية أو معارض جماعية.
  8. تقديم العروض المسرحية الكثيرة للكبار والصغار ضمن استضافة الفرق المسرحية، إن كانت عروضاً مستقلة أم ضمن المهرجانات كالأسبوع الثقافيالسرياني، أو الحلقات الدراسية.
  9. تكريم الرموز الثقافية والمعرفية من خلال إقامة فعاليات ثقافية لهم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: الأب الشاعر بوسف سعيد، الفنان المسرحي عادل كوركيس، العالم الآثاري دوني جورج، الفنان التشكيلي لوثر إيشو).

10. سلسلة إصدارات تجاوزت الثلاثين كتاباً باللغات السريانية والعربية والكوردية والسريانية لنخبة من الكتاب توزعت على مشارب الشعر والنقد والقصة والرواية والتحقيق والبحث…. الخ.

11. فعالية توقيع الكتب للمؤلفين الذين أصدرت لهم المديرية نتاجاتهم ونذكر حفل توقيع كتب (محمد صابر عبيد، شاكرسيفو، زهير بردى، سعدي المالح، هيثم بردى، وعدالله ايليا، وأكرم بهجت).

12. أسس لمكتبة ضخمة للمديرية احتوت على الألاف من العناوين في شتى حقول الإبداع.

13. إقامة اسبوع ثقافي سنوي للثقافة السريانية ولمدة خمس سنوات قدمت فيها الفعاليات الإبداعية في التشكيل والشعر والمسرح والتراث الشعبي وتوقيع الكتب… وما إلى ذلك.

14. افتتاح صرح حضاري مميز تمثل بمتحف التراث السرياني الذي يعد من المتاحف القليلة في العراق من حيث غناه بالتراث الشعبي السرياني والتراث المعرفي والثقافي والفني والإعلامي للعراقيين السريان.

15. وليس آخرها منجزه العراقي الفذ بإقامة حلقة دراسية كل عام ولأربع حلقات كانت أولاها عام 2008 والتي توشحت باسم القاص والروائي سركون بولص، والثانية عام 2010 باسم إدمون صبري، والثالثة عام 2011 باسم سليمان الصائغ، وآخرها باسم رفائيل بطي عام 2012، قدمت فيها بحدود مائتان وخمسون دراسة وتحقيقاً وبحثاً واستقراءً وقصائد للمئات من النقاد والشعراء والقصاصين والروائيين والمسرحيين والمحققين….. الخ، بحوثهم ودراساتهم وتحقيقاتهم…. الخ، ولا تسع صفحات عديدة لذكر كل الأسماء ولكن ليعذرني من أغفلت ذاكرتي ذكر الكثبر منهم، ان ذكرت بعضهم: فاضل ثامر، د.محمد صابر عبيد، د. شجاع العاني، أحمد خلف، ألفريد سمعان، ناجح المعموري، جاسم عاصي، د. فائق بطي، د. خليل شكري هياس، موفق محمد، د. نادية هناوي سعدون، د. قيس كاظم الجنابي، د. سوسن البياتي، د. سمير الخليل، شاكر الأنباري، د. فليح السامرائي، علي حسن الفواز، محمد علوان، زهير بردى، د. محمود عايد، د. حياة عيسى جاسم، بهجت درسون، زهير الجبوري، توفيق التميمي، بهنام حبابة، سامر ألياس سعيد، علي العبودي،  عباس خلف، د. فيصل المقدادي، مثنى كاظم صادق، حسب الله يحيى، د. يوسف توما، د. علي الربيعي، د. محمد أبو خضير، بشير حاجم، أحمد خالص الشعلان، سعد سلوم، د. عماد عبدالسلام روف، د, عامر الجميلي، د. أمير حراق، شاكر مجبد سيفو، نمرود قاشا، عبدالغني علي يحيى، د. بروين بدري توفيق، حامد فاضل، ادمون لاسو، د. باقر الكرباسي، روبن بيت شموئيل، دريد بربر، نزار حنا، اسماعيل سكران، علي سعدون، عبدالسادة البصري، د. سالم نجم عبدالله، د. نبهان حسون السعدون، د. فيصل القصيري، ……… الخ.

وكانت هكذا فعالية تحتاج الى جهود تنظيمية وادارية تمتد من أقصى العراق إلى اقصاه، فاعتمد المالح على جهود أدباء عملوا معه وكأن المديرية مديريته والإحتفالية احتفاليته أذكر منهم باعتزاز القاص المثابر حسين رشيد وكاتب السطور فضلاً عن مؤازري المديرية ومنتسبيها، واعتمد في التقييم العلمي للبحوث على نخبة رائدة من الأسماء النقدية والبحثية الراسخة أذكر منها: د. محمد صابر عبيد، فاضل ثامر، ياسين النصير، د. يوسف قوزي، د. عماد عبدالسلام رؤوف، د. بهنام سوني، إضافة إلى المالح نفسه والعديد من الكفائات المعرفية الأخرى .

وبعد… هل أجانب ما أشار اليه الزملاء بان سعدي المالح كان وزيراً للثقافات…؟؟!!.

أم أثني على رأيهم؟.

أحسب أني سأنحاز إلى الاحتمال الثاني…

وأقول في سعدي…

سعدي المالح

أيها المؤثث بالإبداع الثر…

انت لست الفنار….. حسب

كنت وستكون المرسى الدافق بالحياة

والساحل المشرق بالنوارس

تنوس بضيائك نحو السفائن التائهة

والملاذ لربابنتها وملاحيها

لترسو على ساحل الطيبة والبسمة والأمان

سعدي……

صدقني

إني في حياتي فقدت الكثير من الأحبة

كانوا وسيبقون كعمود الخيمة

تتقوض إذا مسه خطل

ولكني لم أكتب فيهم حرف رثاء

لأن الوجع مهما حاولت ترجمته

لن ولن يفصح عن جمار الحزن والأسى

إلاك يا صنوي وأخي وتوأم روحي

سامح هذه الخلجات التي أهرقتها ذائقتي

لأنها لن تفي حق

سعدي بويا المالح.

عذرا سعدي.

عذرا أيها الفنار الذي يحتضن – كما الأم الرؤوم –  السفائن.

عمكا تتزين بانتظار ابنها البار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share via
Copy link
Powered by Social Snap