..ثم اكتشفت فجأة حقيقة أن العيش في مدينة ضخمة وهائجة مثل بغداد يقضم السنين مثل جرذ جائع، إذ لا يجد المرء وقتاً فائضاً للقراءة والتأمل والاسترخاء. بغداد مدينة تسبح في فوضى عارمة، مدينة بلا إيقاع، كما قلت ذلك سابقاً، لكن من حسناتها أنها تقدم للمرء وجبة حياة بشكل مفاجئ، ومن دون توقع أو تخطيط. وفي تلك السنة المضطربة التي كنت أعيش فيها على هامش المدينة، وهامش الوسط الثقافي، مقتنعاً بوجود رأسي على جسدي، دعيت ذات يوم فجأة، إلى مهرجان الثقافة السريانية، المقام في أربيل، فوضعت حقيبتي في كتفي، وسافرت مع المدعوين إلى هناك.

الروائي والقاص العراقي سعدي المالح
انطلقت بنا الباصات من مبنى اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، القريب من ساحة الأندلس.
اعتادت مدينة عينكاوا، المدينة المسيحية الواقعة في قلب أربيل، أن تقيم مهرجاناً سنوياً للثقافة السريانية. ثلاثة أيام فترة المهرجان، وتقدم فيه عشرات البحوث، والدراسات، عن تلك الثقافة العريقة التي تعتبر من أسس الثقافة العراقية. تعرض أفلام قديمة كتب لها السيناريو القاص والمسرحي إدمون صبري، الذي كان اسمه عنواناً للمهرجان السابق تكريما لذكراه. كما استطاعت هذه الفعالية السنوية أن تجمع أطيافاً عراقية من المحافظات كلها. وأشرفت على الفعالية المديرية العامة الثقافة السريانية في وزارة الثقافة بإقليم كردستان، وظل القاص والروائي سعدي المالح لولبا لها حتى وفاته.
وكانت الجلسات، والفعاليات، كلها في مدينة عينكاوا، ما أضفى بعداً جمالياً آخر على المهرجان. كل صباح كان المثقفون والأدباء يستيقظون على إطلالة مدينة مكتملة الجمال، بشوارع نظيفة، وواجهات أبنية أنيقة، وهدوء اجتماعي، وسلام مسيحي تبثه الكنائس، كان يرفرف مع الهواء الخريفي الذي ينحدر إليها من الجبال البعيدة.
كل شيء في عينكاوا بدا لعيني وكأنه يحمل نكهة خاصة: الشراب، الطعام، وجوه النساء، تصاميم الشوارع، الكنائس، وواجهات البيوت. قال واحد من الأدباء إن عينكاوا تذكره بمدن أوروبية طالما رآها وعاش فيها. إنها مدينة حضارية بالمقاييس كافة، حتى ملابس شاباتها وشبابها ذات أسلوب يكشف عن مدى الحرية الشخصية التي يعيشونها. أول ما يجذب البصر هو البنايات الجديدة التي أضيفت إلى المدينة، فنادق حديثة، ومطاعم، ومولات، وشركات، تصاميمها تعكس روحاً وصلت إلى مدارج الحداثة. الرأسمال الذي يستثمر هنا كما لو كان حريصاً على إيصال هذه المدينة إلى أعلى السلم بين المدن السياحية. ورغم كل ذلك الجمال، والمساءات الملونة، والسلام المرفرف على تخوم المدينة وتفاصيلها، إلا أن معظم القادمين من بغداد، والمحافظات، كانت في قلوبهم غصة، وألم. هم يقارنون، يومياً، هذه المدينة وما يجري فيها من إعمار، وتنظيم، وتطور، بالمدن العراقية التي جاؤوا منها، بخاصة العاصمة بغداد. العاصمة التي أصبحت مدينة جحيمية بامتياز.
عشنا مقارنات يومية، جميعها تصل إلى نتيجة واحدة: إن ما يجري في بغداد والمحافظات أمور لا تسر، ولا تبشر بخير، فليس هناك بين الطبقة السياسية من يهتم لإعادة بناء البلد، أو يخالجه الخوف على مصيره المتهالك. اتفق الجميع على أننا بين أيدي لصوص، ومزورين، وسراق للمال العام، وبياعي كلام سياسي فج، لا أكثر ولا اقل، وإلا لِمَ لمْ ينشئوا مدنا مثل عينكاوا، وأربيل، ودهوك، والسليمانية، وغيرها من مدن الإقليم؟ الأموال موجودة، والأمان هم يصنعونه أو يجهزون عليه عبر ميليشياتهم، وحماياتهم، وأعوانهم، وإعلامهم، والشركات على الأبواب، والحاجة وصلت إلى مستوى حضيضي. فلم لا يرى المواطن العراقي أي أثر للبناء، والتنظيم، والوجه الحضاري، كما في هذه المدينة الصغيرة المسماة عينكاوا؟ هذه الأسئلة، وغيرها، رددها عشرات المثقفين الذين عاشوا أيام الثقافة السريانية في عينكاوا، ونغصت عليهم سعادتهم في تلك المساءات الساحرة.
في “فولدر” (ملف) مديرية الثقافة السريانية شخصيات كثيرة يمكن لأي باحث تناولها في المهرجان، وكم كان غريباً على المرء أن يلمس أن كثيراً من مبدعي العراق هم من السريان، وساهموا في تأسيس ثقافة تنويرية، طالما نمت وتفتحت في العراق منذ بدايات القرن الماضي. خليط من الفنانين، والكتاب، والمسرحيين، والشعراء، والمفكرين، تحدروا من هذه الثقافة الفرعية المختلفة، لغة وديناً، ولكنها وسمت أجيالاً من العراقيين بميسمها. منير بشير، وسيتا هاكوبيان المغنية، وعفيفة اسكندر وادمون صبري، وفائق بطي، والأب يوسف سعيد، وسعدي المالح، وهيثم بهنام بردى، وسركون بولص القاص الذي تحول إلى شاعر، ويوسف الصائغ، ويوسف عبدالمسيح ثروت، والآثاري المتوفى بهنام أبو الصوف، و”صعلوك” الشعراء جان دمو، وغيرهم عشرات، بل مئات من الأعلام، الأموات منهم والأحياء.
وكان لافتاً من بين الكتاب السريان المعاصرين، الروائي سعدي المالح وروايته الموسومة “في انتظار فرج الله القهار”. قرأتها في بغداد وكتبت ورقة بحثية عنها. بطل رواية المالح مغترب يعيش في مدينة كندية، أو أوروبية ربما. الرواية تلاحق هواجس البطل وتداعياته، كمحور لها لكنها لا تغفل شخصيات أجنبية معظمها من النساء، وعلاقاتها مع الشخصية أو مع شبيهها، ما يخلق تماسا حضاريا يلف الشخصيات كلها. وبارتكازها على خلفية أسطورية حضارية ودينية ومكانية، تضيء الرواية أكثر من إشكالية طالما وقف إزاءها المثقف العراقي في العقود الأخيرة، منها تجربة الفرد في المنفى والاغتراب، وهي بنسبة ما ظاهرة جديدة في الرواية، تجسدت بوضوح في كتابات الأدباء الذين عاشوا هذه التجربة.
وجدت لدى قراءة الرواية أن الإشكالية الثانية في أدب الاغتراب هي علاقة الكاتب بالوطن الأم، ومدى قدرته على دمج مادته الأولية بين بيئات مختلفة، عبر بطل رواية صار أنموذجا في نتاجات المنفيين، أي تعدد الأمكنة والأزمنة في الحدث الروائي، كما نجد تعدد الشخصيات وتنوعها تبعا لتلك البيئات. والإشكالية الثالثة هي الحرية الكبيرة التي يمتلكها الكاتب الذي يعيش في أوروبا، وتحرره من تابوهات الجنس والسياسة والدين. ولعل مشاهد الجنس التفصيلية في الرواية، تعكس حرية كبيرة في تناول هذا الجانب، حرية تهرب من الرقابة الكلاسيكية التي تعود عليها القارئ سابقا، وهذا ما صار سمة لروايات الأدباء الذين عاشوا في المنفى.
كما تندرج رواية “في انتظار فرج الله القهار” ضمن تيار روائي مستجد في الثقافة العربية عموما، ذلك النفس الجديد في هذا الحقل المتمثل بالانتساب إلى بيئات فرعية داخل المجتمعات العربية، وهنا في حالة سعدي المالح هي البيئة المسيحية، السريانية، في البلدات والمدن الشمالية من العراق، إذ تدور بدايات الرواية في بلدة مسيحية، وضمن طقوس الكنيسة وقرع الأجراس، والقداديس، وانتظار المخلص لجلب الراحة لأرواح المعذبين والمضطهدين. ونجد تصادياً لهكذا تجارب في روايات المصري إدوارد الخراط حول التقاليد القبطية من صلاة وزواج وجماليات للمكان، وروايات ابراهيم الكوني التي أضاء فيها عالم الصحراء وأساطيرها، وروايات حنا مينه حول البحر وجماليات المدن البحرية وشخوصها، وهذه أمثلة لا تعني الحصر تحديدا.
إن معايشة أجواء الرواية للبيئة الغربية، وتمثلها لتلك البيئة هو حقل اشتغال جديد للرواية العراقية، والعربية بعض الشيء، عدا الأجيال الجديدة من الروائيين الذين اتجهوا مؤخراً إلى هكذا نمط من الكتابة. نمط قد يجوز لنا وضعه مع بدايات المنفى الذي عاشته أجيال المثقفين العراقيين منذ الثمانينيات وحتى اليوم، وهذا ما يضع القارئ العربي أمام لا نمطية القراءة، هو المتعود على قراءة أجواء يعرفها، وتترسب في الوعي الجمعي الذي يحمله.
يعيش بطل الرواية في الغرب، حاضره هناك، لكنه مسكون بالماضي كحالة بطل رواية سعدي المالح، هذه. رواية سعدي المالح من هذه الزاوية، مسكونة بالماضي، فينبث ويتردد في الحوارات، والتداعيات، والأمزجة، المقارنات بين واقع حاضر وواقع فات وانقضى. وعادة ما يجيء الماضي على شكل استذكارات، وأصداء، وتوهمات، وعبر نقلات استيهامية تقطع سريان الحاضر وتلوثه، أو تشظي وقعه على البطل، وهذا ما لاحظناه في تعثر علاقة البطل بمعظم النساء اللواتي عاشرنه، أو ارتبطن به بعلاقة حب. كما يمتلك البطل رؤية دقيقة للتاريخ، وهنا شاهدنا وقوفه الطويل على تاريخ المذبحة التي حدثت في منطقة (سمّيل المسيحية) في بدايات القرن العشرين، وكانت السلطات الغاشمة، آنذاك، قد تعاملت بلا انسانية مع شعب مسالم، السريان، ضمن بقعة جغرافية أصيلة، وكان يطمح إلى أداء دوره الوجودي على هذه الأرض بحرية وسلام.
وعي التاريخ هو رؤية متقدمة لدى البطل، وهو جزء من أزمة الهوية التي عانى منها المجتمع لعقود طويلة. واعتماد فكرة المخلص، المسيحية، في بداية الرواية، وظفها الكاتب فنيا عند استرجاعه للأحداث في الحرب العراقية الايرانية، وبعدها، ربطها بفكرة المهدي المنتظر في مذهب التشيع، وإذا الجميع في حالة انتظار المخلص مهما تنوعت الأديان والمذاهب. وفكرة المخلص وجدت لدى أغلب الشعوب المضطهدة، منذ الوثنية وحتى اليوم.
لكن السؤال هو إلى أين ينتهي المطاف ببطل الرواية، بعد أن وجد نفسه وحيدا في المقهى أو الحانة؟ هو المحمل بتاريخ من الهزائم والمذابح والخيبات؟ يجيب الكاتب في الفصل الثاني عشر من الرواية بأنه ليس ثمة من نهاية، فالتجربة ما زالت متفاعلة، ومتوهجة في روح البطل.
وهذا هو حال الشعب السرياني في العراق اليوم.

