يوسف زرا
المقدمة
مرت البشرية منذ العصور التاريخية القديمة تعيش كجماعات صغيرة في كهوف ومغاور جبلية ضمن العلاقات المشاعية البدائية والاسترقاق وعبر مراحل زمنية طويلة من عدم الاستقرار النسبي . تبوأت المرأة مكانة خاصة بسبب إنجابها الأطفال في الوقت الذي كان الرجال يجوبون الغابات والوديان والجبال بحثا ً عن المواد الغذائية من الفواكه وثمار الأشجار الطرية والجافة عبوراً إلى مرحلة الصيد والرعي . ثم جاءت مرحلة الزراعة البدائية والتي كانت نتيجة مبادرة المرأة وابتكارها لها على نحوٍ منفرد وبدء الانتقال من موقع إلى آخر وحسب خصوبة الأرض ووفرة مصادر المياه وظهور القرية الزراعية البدائية (1) . أدى إلى زيادة مكانة المرأة ضمن التجمعات السكنية الجديدة لأسباب عدة منها إنجاب الأطفال والعناية بهم وكانت المرأة تحترف وظيفتين أساسيتين – وظيفة إنتاج الحياة ( البشر) (2) ووظيفة الزراعة أي بدء استثمار الأرض كإنتاج اقتصادي مما أدى إلى ارتقاء مكانتها في هذه المرحلة إلى مستوى اكتساب النفوذ ( السلطة المركزية لأول مرة ) في إدارة شؤون الأسرة بصورة منفردة ومباشرة دون مشاركة الرجل لها . وتحكمت فعلا ً بمرحلة تعدد الأزواج (3) والتي منها جاء (طور الأمومة ) في انتساب الأولاد إليها قبل انتسابهم إلى الرجل بفترة طولية. وبسبب تطور وظيفتها الزراعية . أهلتها هذه الحقبة كامتياز لاستحقاق زمني ليمتد نفوذها الإداري إلى خارج المسكن إلى جانب تمتعها بسلطة ربة البيت مما اكسبها الخبرة الواسعة في مجالات الحياة اليومية نسبيا ً إذ كان الرجل ولازال متفرغا ً لجني القوت اليومي كما جاء سابقا.
2– المرأة الرافدينية والأسطورة
إن أقدم فترة تاريخية موثقة ، تؤكد لنا أهمية موقع المرأة الرافدينية ومكانتها كأنموذج – امرأة عاملة وامرأة ملكة – وعلاقتها بأسماء الآلهة ، هو كما جاء مدونا ً بالخط المسماري في الأساطير السومرية والبابلية ، كطفرة زمنية نوعية في حياتها ضمن مسيرة المجتمع البشري، وارتقاؤها إلى منزلة الآلهة جاء عبر عدة ملاحم وأساطيرعدة، منها قصة الخلق ثم قصة الطوفان * وبأسماء عدة منها الآلاهة ( نمو ) السومرية خالقة الإنسان تقابلها ( مامي ) البابلية والتي تعني الأم الكبرى والأرض والتربة الخصبة ، ثم جاءت متخصصة بوظائف شتى ومثل الآلهة ( عشتار ) آلهة الحب والحرب والآلاهة ( أرش كيجال ) آلإهة الأرض والعالم السفلي ، و ( شالا ) آلإهة سنبلة القمح ( آلإهة الزرع ) وثم ننخر – ساج ( ننماخ ) وهي من الآلهة السومرية الخالقة ايضا ً .
وبسبب انتقال المرأة إلى مستوى قيادة الحكم ( مرحلة ظهور العقد الاجتماعي ) ( الدولة ) أصبحت ( شوب – آد ) (4) الملكة السومرية الحكيمة الأولى في إدارة مدينتها ( مرحلة دولة المدن – 3000 ق .م ) .
* نتشين زوجة اتونيستم وارتقت مع زوجها إلى منزلة الالهة .
وتعد مرحلة تمتع المرأة بالمكانة المميزة – ربة الأسرة – ثم الالاهة ، ثم ملكة . مرحلة ظهور الثقافة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإدارية . وذات أعراف وقيم خاصة بها وبعيدة عن ظاهرة الأنانية والإثرة ، ظاهرة انقسام العمل وتولي الرجل السلطة .
ولا ننسى ظهور المرأة الأسطورية ( سميراميس أو سمورات) واسمها مشتق من كلمة ( سمات ) الأشورية وتعني الحمامة . حكمت هذه المرأة في مدينة نينوى لمدة ( 42 ) سنة في القرن الثامن ق. م والتي وجاء ذكرها في الكثير من الكتب اليونانية والرومانية القديمة وهي ليست آشورية، لأنها جعلت عبادة اله مردوخ اله بابل بدلا ً من أشور .
كذلك انفردت ( زاقوتي أو زاكوتي )(5) الأميرة الآشورية سابقا ً والتي تزوجت لاحقا ً الأمير سنحاريب من زمن والده الملك سرجون الثاني وبعد أن تسلم سنحاريب السلطة بعد وفاه والده سرجون الثاني لقبت زاقوتي بالملكة ويذكر أنها مارست السلطة كملكة على جرء كبير من الدولة الأشورية وعثر على رقيم يذكر فيه انه في عام 683 ق.م . قبل مقتل زوجها سنحاريب بعامين خصص لها موظفون أكفاء يديرون شؤون بعض أملاكها من مدينة لاخيرو ( كفري ) المدينة التي ولدت فيها ويعتقد أن سلطانها امتد إلى منطقة اربخا ( كركوك ) حتى جنوب بلاد الرافدين ومن ضمنها مدينة أيان ( عمان ) التي كانت تحت النفوذ الأشوري .
3- المرأة بعد تقسيم العمل
بعد انتقال المجتمع البشري من مرحلة المشاعية البدائية إلى مرحلة ظهور النظام الاقطاعي الباطريركي ، وظهور الرجل على مسرح الحياة ذات السلطة المركزية المطلقة الاقوى والاكثر قدرة على ادارة المجتمع وتنظيم الحياة الاجتماعية على وفق ضوابط وقيم خاصة كذلك تطوير العملية الزراعية واستغلال الارض على نحو افضل وترسيخ القرية الزراعية ونموها ، اصبح بحكم الواقع الجديد ، انكفاء دور المرأة إلى رعاية شؤون الاطفال والقيام بخدمة البيت وزوال طور الامومة بالنسبة لانتساب الاطفال وتعدد الازواج . وبظهور الرجل الاقوى في الاسرة الواحد أو في أسر عدة (6) ، أي ظهور التركيب الاجتماعي الطبقي القبلي ذات المركزية الفردية الصارمة ، يحق للرجل بتعدد الزوجات وتسمية الاطفال باسمه ( طور الابوة ) . بمعنى ظهور علاقة جديدة بين الرجل والمجتمع الانساني القبيلة والمرأة اصبحت جزءا ً من البنى التحتية تعمل بارادة الرجل وتلتزم بعادات وتقاليد جديدة ، وفي هذه المرحلة ظهرت طبقة العبيد والاقنان ، المجموعة الاولى تعمل كخدم مملوكة داخل البيت والمجموعة الثانية مرتبطة بالارض وتعمل فيها مدى الحياة ، تشترى وتباع معها . وعلى الرغم من انتقال قيادة الاسرة والمجتمع إلى الرجل وهو صاحب الامر والنهي ، إلا أن دور المرأة ايضا ً لم يكن سهلا ً تهميشه ، لان خاصية الإنجاب جعلتها موضع التقدير والاحترام لدى العائلة والقبيلة إلى جانب بقائها تشارك الرجل (7) في الكثير من الاعمال ومنها بالدرجة الاولى الزراعة وتربية الماشية ورعي الاغنام وغيرها ، ولازال تأثير هذا النظام ( الاجتماعي والاقتصادي ) قائما ً إلى هذا اليوم لدى الكثير من شعوب العالم الثالث وخاصة في افريقيا واسيا وغيرها .
4- المرأة ضمن الحضارة الفرعونية
أولا ً لابد أن نعرَّج على الحضارة الفرعونية والتي عدّها ( التوأمَ الحضاري لحضارة وادي الرافدين ) في القدم المشترك والجارتين جغرافيا ً .
فسوف نرى أن المرأة في الحضارة المصرية القديمة التي تمتد إلى الالف الثالث فبل الميلاد كانت هي الاخرى ذات مكانة مرموقة ومحترمة . تمارس الاعمال الصناعية والتجارية بكل حرية دون تميز بينها وبين الرجل ، أي اقرب إلى المرأة في حضارة وادي الرافدين ، ولابد أن نشي على نحو خاص إلى عهد الاسرة الفرعونية الثالثة 2270 ق.م .(8) وظهور في أقدم وثيقة في تاريخها ، والتي جاءت كتوصية من قبل سيدة باسم ( نب- سنت) توصي بانتقال ملكية اراضيها إلى اولادها في حالة وفاتها .
وكذلك كان الرجل إلى عهود متأخرة من الحضارة المصرية القديمة يتنازل لزوجته في عقد زواجه عن جميع املاكه ومكاسبه المستقبلية جميعاً .
وما يؤكد من نيل المرأة المصرية ضمن الحضارة الفرعونية المكانة الاولى ، هو وصولها إلى عرش مصر ومنهن ( حنشبوت وكليوباترا ونفرتيتي وغيرها ……….
بمعنى أن الحضارتين الرافدينية والمصرية ، كانت ترى أن ادارة الاسرة والمجتمع نابعة من ارجحية العقل الانساني المتطور وليس من القوة العضلية التي يتمتع بها الرجل منذ القدم حتى الان.
وبمعنى أدق أن تلك الارجحية في العقل تعود للمرأة وليس للرجل . وخاصة أن المرأة البابلية كان ينظر اليها ككائن رقيق وهاديء ، وهذا ناتج من التوجه العام للعقل الثاقب الذي تمتع به المجتمع البابلي ككل وتفضيله العمل في مجال العلم والمعرفة والفلسفة ، مما ادى إلى بروز دور المرأة كعنصر انساني هاديء الطبع وشديد الصبر ، عكس المجتمع الاشوري الذي مال إلى العقلية العسكرية وانشغل قادته بالفتوحات والحروب المستمرة ، فكان دور المرأة في القرون المتأخرة مهمشا ً كليا ً تقريبا ً .
5– مكانة المرأة الرافدينية والشرائع القديمة
اذا تابعنا تقادم الزمن مع ظهور الانظمة المركزية ذات الضوابط والالتزامات المثبتة ضمن لوائح ومسلات عديدة تنص على تنظيم الحياة اليومية في عمق الحضارة الرافدينية على وفق قوانين وشرائح خاصة بها ومنها وحسب قدمها .
شريعة اورنمو: وهو مؤسس سلالة أور الثالثة مابين 2111-2003 ق.م .وتعد اقدم شريعة عرفها التاريخ ، تمكن اورنمو من توطيد العدل وازالة البغضاء والظلم .
وما يخص مكانة المرأة . فهناك احكام تخص الاحوال الشخصية ، كالزواج والطلاق والارث والتبني . بمعنى لم تكن مكانة المرأة مهملة ، بل حددت تلك الاحكام حقوقها وواجباتها تجاه الرجل وكذلك حقوق وواجبات الرجل تجاهها . ونجد أول تنظيم للاسرة يظهر قانونا ً عبر التاريخ لم يسبق اليه احد من قبل .
شريعة أش نونا : وهي مجموعة من قوانين صدرت في بلاد وادي الرافدين في القرن السادس او السابع عشر ق.م. وقانون أش نونا مدون بالغة البابلية وبالخط المسماري . وينسب هذا القانون إلى سلالة حكمت في مدينة أش نونا حوالي 2020 إلى 1750 ق.م التي تقع في حوض نهر ديالى على بعد ( 40كم ) شرق بغداد وتسمى اطلالها حاليا ً باسم ( تل اسمر ) . واشهر أمرائها المستقلين هما ( ابق ادد الثاني ) 1830 ق.م. و (دادوشا ) نحو 1800 ق.م. والمواد القانونية التي تخص المرأة وحياتها الزوجية في هذه الشريعة بلغت العشر وهي ( 17 ،18 ، 25 ، 26 ، 27 ، (9) ،28 ، 29 ، 30 ، 31 ) والمادة (59) التي تنص على طرد الزوج الذي يتزوج زوجة ثانية وطلقها ، ويحرم من كل ثروته .
بمعنى أن الفارق الزمني بين الشريعتين يمتد إلى حوالي ثلاثة قرون ونصف قرن على الرغم من أن المدة تعد طويلة نسبيا ً قياسا ً بواقعنا الحالي .. إلا انه يعد في حينه طفرة كبيرة تحدد مكانة المرأة في الاسرة والمجتمع بعدد كبير من المواد القانونية.
لبت عشتار : هو الملك الخامس من سلالة ( أيسن ) 1934 -1924 ق.م . كتبت الشريعة باسمه وباللغة السومرية وهو غير سومري جاء في مقدمة شريعته تحقيق العدالة وردع الظلم والعصيان المسلح وهو راعي مدينة نفر ، ولم يذكر في شريعته أيه مادة قانونية تخص حياة المرأة مباشرة ً . باعتبار ان تحقيق العدالة وردع الظلم يشمل العدالة للرجل والمرأة في الحياة العامة والخاصة وحمايتهما من الظلم اذا وقع .
شريعة نيصابة وهاني : وهي شريعة تخصصت بمسألة الزواج والتحكم به (10) في عهد سومر قبل التوحيد بحدود الربع الاخير من الالف الثالث ق.م . وبما انها تخص الزواج بمعنى تخص مكانة المرأة في الاسرة وعلاقتها بالرجل .
قوانين حمورابي : حمورابي هو سادس ملك من سلالة بابل الاولى والذي حكم من 1792 إلى 1750 ق.م. خلّف هذا الملك اشهر شريعة مكتوبة بالخط المسماري على شكل مسلة حجرية كبيرة احتوت على 282 مادة قانونية ومنها ما يخص حياة المرأة من الحقوق والواجبات فاقت كل الشرائع السابقة ولم تُسَن من بعدها ضمن الحضارة الرافدينية حتى سقوط نينوى 612 ق.م. وبابل 539 ق.م . وبلغ عدد المواد التي تخص المرأة كزوجة وأم وعاملة وتاجرة وغيرها (78) مادة بدءا ً بالمادة الخامسة عشرة وعلى شكل مواد متفرقة وآخرها المادة (214). واشهر مواد الشريعة التي تنصف المرأة كزوجة هي المادة (124) التي تنص على انه اذا تزوج سيد امرأة واصيبت بمرض واراد أن يتزوج ثانية ، فله أن يتزوج ولا يجوز أن يطلق زوجته الاولى التي اصيبت بمرض ، إنها تسكن في البيت الذي بناه وعليه أن يعيلها ما دامت هي قيد الحياة .
اما المادة 149 فتقول : اذا هذه المرأة لم ترد أن تعيش في بيت زوجها، فعليه أن يعطيها كل جهازها الذي جلبته من بيت والدها ولها أن تذهب .
المرأة في الحضارة الاغريقية
ولو ترجلنا قليلا ً ودخلنا عهد الاغريق ، تلك الحضارة التي اختصت بالفلسفة والعلوم الانسانية الاخرى وجاءت بعد زوال امبراطوريات عدة في الشرق الاوسط والتي مثلت حضارات عدة منها حضارة وادي النيل وتكلمنا عنها فيما يخص المرأة . وثم حضارة وادي الرافدين موضوع بحثنا بالذات ومكانة المرأة في جميع مراحلها جميعاً منذ الالف الثالث قبل الميلاد إلى القرون الاخيرة من الالف الاول قبل الميلاد .نرى ان الفرق الشاسع زمانا ً حضاريا ً يفوق الثلاثة الالف عام قدما ً على الحضارة الاغريقية ، التي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد ، وكان علماؤها وفلاسفتها على اتصال دائم بعواصم الحضارتين المذكورتين وكبرى مدنهما وخاصة بابل التي قدمت للبشرية خدمة معرفية وعلمية لم تتمكن اية عاصمة ومدينة اخرى من تقديمها إلى يومنا هذا . مع فارق الزمن وميزة كل عنصر من عصورها .
اما موقع المرأة في الحضارة الاغريقية ، فلا يمكن مقارنته إيجابيا ً باية حقبة، أو زمن اية سلالة من سلالات الملوك الذين حكموا وادي الرافدين من شماله إلى وسطه وحتى جنوبه .
إذ كانت المرأة في تلك الحضارة ( الاغريقية ) مهمشة كليا ً ( اجتماعيا ً خاصة ً ) وكانت مسلوبة الارادة داخل البيت وخارجة . إذ كانت محجبة (11) بالكامل قسرا ً خارج البيت ، وهذا مطابق إلى الفترة القصيرة من حياة المرأة في العصر الاشوري المتأخر ، إذ كان القانون والعرف الاجتماعي يلزمان المرأة بارتداء الحجاب (12) لتميزها عن غيرها، اي من المرأة الرقيقة (من الرق او العبودية) والعاهرة، في مثل هذه الحالة توجب عليهن ارتداء الحجاب ، عكس البابلية كانت غير محجبة . مما يدل ان الفترة الاشورية المذكورة ساد فيها النظام الاجتماعي القبلي وزاد الضغط على المرأة بصورة كبيرة. علما ً ان المرأة الآشورية كانت تنعت بـ ( السليطة ) .
اما الاغريقية فليس هناك ما يبرر مجتمعها بالانغلاق على المرأة بهذا الشكل المظلم مما يؤكد ان حضارة وادي الرافدين بدءا بالسومرية مرورا ً بالبابلية والاشورية والكلدانية ، كانت حضارة انسانية تقيّم المرأة بالدرجة الاولى منذ القدم قياسا ً لما حولها من الشعوب المتنافسة معها.
حرية المرأة في بابل ونينوى
كان تعدد الزوجات موجودا ً، وخاصة لدى ملوك بابل ، ومع ذلك كانت نساؤهن يشاركن ازواجهن في المناسبات والولائم جميعاً ، وهن غير محجبات ويتناولن شرب الخمر في اواني خاصة ، وكانت احدى الزوجات تختار كملكة من بينهن وتنال تلك الزوجة الاحترام والخضوع لها من قبل سائرالزوجات ، وبعد ذلك لاتخاطبهن بسبب تخصص مكانتها الاجتماعية والرسمية داخل الاسرة المالكة . وهو سبق زمني بألوف السنين لما هو قائم في جميع دول العالم حاليا ً . إذ تعد زوجة الملك ملكة وزوجة الامير اميرة ، وزوجة رئيس الدولة سيدة البلاد الاولى ، بمعنى ان البابليين سبقوا البشرية في مكانة المرأة وقدسيتها كرمز انساني تمثل نصف المجتمع ونجد ذلك ( في سفر دانيال النبي 5: 1-4) الذي يؤكد فيه حضور زوجات وسراري الملك بيلشاصر ابن الملك نبوخذ نصر وليمة عظيمة ومشاركتهن المدعوين في شرب الخمر بأواني ذهبية ، كما ارتقت المرأة البابلية إلى صنف الكاهنات ومنهن الكاهنة الكبرى ( إنتو entu) وتعني في السومرية زوجة الاله ثم الكاهنة ( ناديتوم naditum ) والكاهنة الثالثة ( شوكيتوم shugtum ). إلى جانب ذلك، كانت هناك تقاليد في كل قرية ، يتم فيها في كل سنة جمع الفتيات البالغات ، فيجتمع حولهن الرجال الراغبين بالزواج ، وتجري عملية انتقاء الزوجة وشرائها ( أي دفع المهر ) كما هو حاصل لدى شعوب الشرق خاصة . ومنها المجتمع العراقي بكل مكوناته ومعتقداته الدينية وغيرها . فان المهر يُعد ذات قيمة تراثية وامتداد اجتماعي من تلك الايام ، على الرغم من اختفائه لدى بعض شرائح مجتمعنا كليا ً أو نسبيا ً ويتوقف على الحالة الفكرية والثقافية ( التحرر الاجتماعي للعائلة ) لدى الشرائح المعنية . ثم ياتي دور سائر الفتيات من الباكرات والثيبات اللواتي تكون من حظوض رجال من طبقة الفقراء . علاوة على مفهوم الجمال ومقدار العمر لكل فتاة ثم كلُ ينفرد بفتاته لاتمام المراسيم القائمة انذاك .
والى جانب كل هذا فإن الاب لم تكن له أية صلاحية لاختيار الزوج لابنته ، بمعنى انه على الرغم من وجود ظاهرة التجمع والشراء ، فإن الفتاة اقرب إلى حرية اختيار الزوج، وليس التجمع إلا مسرحية لتمكين المحبين مسبقا منً الالتقاء معا ً وفي يوم ٍ لا اعترض عليه ( أي عملية شرعية ) .
ويجب ان نذكر انه كان هناك نوع اخر من الفتيات ، يرتدن المعابد يوميا ً بعلم ذويهم ويجلسن في اماكن خاصة بهن ، ولا يغادرن لحين قدوم رجل غريب ( سائح ) ليلقي في أحضانهن نقودا ً قائلا ً ( اني اوصي بك ِ الالاهة ميليتا ) ( myilttel) . ولا يجوز رفض المبلغ لانه في نظرهم مقدس . ثم تتبع الفتاة الرجل ، وبعد ذلك توفي المرأة الالاهة نذورها باختلائها بالرجل الغريب ثم يسمح لها بالعودة إلى دارها ، وتسمى هذه الفتيات بـ ( العاهرات المقدسات ) (13) أو البغي المقدس ( غاديشتو ) ( gadishtu ) وهناك ما يمثل هذا العرف الاجتماعي بالضبط حاليا ً لدى الطائفة الشيعية والذي يسمى بـ ( زواج المتعة ) وهو عقد قصير ومقابل مبلغ معين ، قد يكون طول العقد ساعات أو أيام أو اشهر وحسب اتفاق الطرفين . وممكن القول ان هذا العرف ايضا ً هو امتداد لما ورد سابقا ً لفتيات المعابد؛ لانه يخص الطائفة الشيعية دون غيرها من الطوائف الاسلامية ، وان غالبية سكنة وسط وجنوبه العراق من الطائفة المذكورة . وكانت الزوجة في العهد الاشوري المتأخر والبابلي الحديث قد تحررت نوعاً ما من عملية الشراء والبيع ، وان كان باقيا ً كتقليد ذات قيمة نظرية أو في محيط اجتماعي ضيق . إذ هناك نص مسجل باسم سيدة تدعى ( نختشارا ) اشترت امرأة تدعى ( نليلها تسبنا ) لتصبح زوجة عملية لابن نختشارا وكان المبلغ المدفوع يساوي ستة عشر شاقلا ً من الفضة . والغيت الصفقة فيما بعد ، الا ان المبلغ المدفوع هو بمثابة مهر مقدّم.
وظهر تعامل خاص مع المرأة الارملة ، فكانت مضاجعتها من قبل الرجل خلال مدة سنتين يعبر ذلك مطابقا ً لعقد الزواج لغير الارملة ومعترف به ، بمعنى ان المرأة في مثل هذه الحالة ( الارملة ) سبقت العالم الغربي والمتقدم بمفهوم الزواج المدني ، حيث لازال الزواج المدني يعد ارتباطا وقتيا بين الطرفين وبعد فترة يتم الاتفاق بينهما على زواج غير قابل للانفصال ، إذ يعقد عقدا على وفق طقوس ومراسيم كنائسية بالنسبة للمسيحيين وكل حسب عقيدته.
ومن حقوق المرأة في العهد الاشوري المتأخر ( سرجون الثاني 722 – 705 ق.م .) أنّ للزوجة الحق في دار زوجها في حالة وفاته ان كان لديها اولاد منه ، وهذا مطابق لقانون الاحوال المدنية الحالي ( بان يكون للزوجة حق في قيمة الممتلكات ) اما الارملة في حالة وفاة زوجها الثاني ولها اولاد من كلا الزوجين ، فيتحمل اولادها من الزوج الاول مسؤوليتها وحقوقها . واذا لم يكن اولاد، فلا يتحمل مسؤوليتها احد، فتذهب حيث تشاء .
الخلاصة
نستدل مما ورد في متن البحث وعلاقته بعنوانه الخاص بمكانة المرأة عبر المسيرة الطويلة لحياة الإنسان على سطح هذا الكوكب وتمتعها ببعض الامتيازات مقارنة مع غيرها في غير الوسط الجغرافي الذي عاشته، وتحرينا بصورة خاصة مسيرة المرأة عبر الحضارتين التأمين الجارتين ارضا ً وزمنا ً ، حضارة وادي الرافدين وحضارة وادي النيل . هاتان الحضارتان اللتان ساهمتا على نحو مباشر وبشكل ابداعي لا مثيل له عبر التاريخ لحضارة اخرى في مجال سن تشريعات وقوانين تعود إلى اكثر من اربعة الاف عام من التاريخ الحالي، واستقينا دور المرأة الايجابي ومكانتها المرموقة على ارض الواقع الحالي في مراحل زمنية سابقة لمكاسب لأية امرأة أخرى بأكثر من ألفي سنة . وقد قارنا ذلك مع مكانة المرأة ضمن الحضارة الاغريقية القريبة هي الاخرى جغرافيا ً من الحضارتين المذكورتين على الرغم من ارتقاء الحضارة المذكورة فكريا ً وثقاقيا ً وبالعمق الفلسفي يشار اليه بالبنان إلى يومنا هذا . إلا ان المرأة في الحضارة المذكورة كانت مقهورة ومهمشة بصورة كلية ( قياسا ً مع فارق الزمن الكبير ) لموقع المرأة ومكانتها وحقوقها وواجباتها في الحضارتين المذكورتين وخاصة المرأة في الحضارة البابلية بالدرجة الاولى مرورا ً بالفرعونية ( وادي النيل ) ثم الاشورية ضمن وادي الرافدين شمالا ً .
وناتي إلى نهاية بحثنا هذا مقترنين بماضينا ، التاريخي الحضاري واثره في الكثير من التجمعات البشرية منذ القدم إلى الان وخاصة ارتقاء المرأة إلى صفوة ومكانة لائقة بها كأم وعاملة ومهندسة وطبيبة وفلاحة متحررة من كل القيود التي لاتليق بمكانتها اجتماعيا ً وثقافيا ً .
الهوامش
1- ( اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ) فريدريك انجلس دار الفارابي ص 32 .
2- المفهوم التاريخي لقضية المرأة – عزيز السيد جاسم ص 13 .
3-أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، سابق ص 55 – 105 .
4- المفهوم التاريخي لقضية المرأة – مصدر سابق ص 17 .
5- فؤاد يوسف قزنجي – جريدة بهرا العدد 440 في 22/ 6/ 2008
6-أصل العائلة مصدر سابق ص 88 -89
7- نظام العائلة في العهد البابلي القديم – رضا جواد الهاشمي ص 36
8- عادات وتقاليد الشعوب القديمة د. فاضل عبد الواحد د. عامر سليمان ص202
9- نظام العائلة، مصدر سابق ص 42
10 – المرأة في شريعة حمورابي / سهيل قاشات ص 133
11- فاضل القريشي – جريدة العراق العدد 7612 في 29/5/2002
12- عادات وتقاليد، مصدر سابق ص76
13- نظام العائلة، مصدر سابق ص 88