أ.د. خليل شكري هياس
دكتوراه في الأدب العربي الحديث
زهير بهنام بردى الشاعر السبعيني الذي ظل مسكونًا بالشعر، يتنفسه ليعيش الجمال بكل أشكاله، ويصنعه- بلذة كبيرة كما يصنع قهوته الصباحية بمعية صوت أمه فيروز- كي يحيا به، أخلص له فمنحه نفسه وظل صنوه إلى أن رحل، كان عونه في الملمات، وسعده في المسرات، ونبضه في التجارب العميقة، هو الوحيد الذي يشاركه في الحب، ويقاسمه الحبيبة، كما يقاسمه اللوعة، والفرح، والغضب، والحسرة، والبكاء، والصراخ، والمضاجعة، والخلق، والفعل، ويشاطره الرؤية والرؤيا، والبصر والبصيرة، ما حاد عنه يومًا ولا هو حاد عنه، إنهما البحر والساحل لا انفصام لهما أبدًا.
هكذا عرفت زهير شاعرًا، عرفته منذ مجموعته الشعرية الثالثة (عشر أصابع من دموع الشمس) مرورًا بمجاميعها المتوالية ( الجسد أمامي وأحفادي فانوس) و( نصوص تشبه عينيك) و (المكان إلى الأبد) و (الليل إلى الآن) و (عيون تحت مظلة باص) و ( قداس المرايا) و ( ونشيد الجسد في اليوم الثالث) و (عراء في حقائب السفر) و ( وجسد في مقهى شرقي) و (العاشرة نساء) و (غبطة حضرتي) و (سيرينيات إيمومو) و (فردوس شخصي) و( حضارة بصيغة جسد) و (جنون إنانا)، وهو مع كل إصدار يأتيني ليسلمني إياه مثل قرص خبز حار لا يريده ليبرد قبل أن ألتذ بطعمه.
إنه شاعر بشاعرية عالية، أراه في شعره طائرًا يحلق مع سرب الشعراء ليأتلف معهم حينًا، ويحيد عنهم حينًا ليختلف، كما وسمته في عنوان مقالي هذا، ولعل المؤتلف فيه كامن في مجاراته للوسط الثقافي الشعري في مواكبة حركة الشعر العربي وتنقلاته التشكيلية التي خلقت تنوعات كثيرة وكبيرة على صعيد التجنيسي فظهرت لدينا كم كبير من الأنواع الشعرية الخالصة والمتلاقحة مع غيرها من الأجناس والأنواع الأدبية، ومجاراة الرؤيوية المنفتحة على الماحول الإنساني بكل مساراته وتشعباته على نحو تخلق معها فضاءً حيوياً يحمل الكثير من اللذة والسحر ويغري ويسيل لعاب الكثير من القراء لكشف كنه التجارب الشعرية، وكذلك في ركوبه موجة الحداثة وما بعد الحداثة ركوب قبطان خبير بأسرار ومكائد ومخاطر الموج، ومن قرأ تجربة زهير الشعرية بكل ثرائه وتنوعه التشكيلي والرؤيوي والحداثي يدرك تمامًا ما نذهب إليه، وليس من الصعب رصد حركة هذا التطور لمن يسلسل قراءته لمجاميعه الشعرية من أول إصدار إلى آخره، وسنقف لنرصد بعض ملامح هذا التنوع في شعره.
لعل أبرز مظاهر التنوع في شعره جنوحه الواضح نحو الانفتاح الأجناسي، وعدم وفائه لفكرة الصفاء النوعي، فنراه ينهل من مختلف فنون القول والسمع والبصر، إذ تجد في شعره عناصر اللوحة التشكيلية، مثلما تجد فيه عناصر فن المسرح أو السينما، أو عناصر السرد بكل أنواعه التخييلية والسيرية، فهو من النوع الذي لا يستكين على حالة شعرية، ولا يتأثر (بتشكيل معين) ولا يحده موضوع، ولا يخضع لسلطة النوع أو الجنس الذي يكتب فيه.
ومن الرؤى القرائية الأخرى لشعر زهير هي أنوية شعره التي تتشكل ظاهرة لافتة في نصه، فهو ينحت في كثير من نصوصه نوعًا أدبياً جديدًا يتلاقح فيه الشعر مع السيرة الذاتية لينتج لنا القصيدة السيرذاتية الحاضرة – مثالًا وليس حصرًا- في نصوص من ديوان غبطة حضرتي ومنها قصيدة (سيرة غريب)، ولعل ما يلفت النظر في قصائده السيرية، أنه اشتغل عليها بحرفية عالية حافظ معها على بهاء الشعر وتألقه من جهة، ووظف التقانات السيرذاتية توظيفا تجنيسياً استطاع من خلالها تقديم جوانب من سيرته الذاتية، فتراه حاضرًا في نصه طفلًا، وكهلًا، عاشقًا ومعشوقًا، محبًا ومحبوبًا، طيعًا ومتمردًا، فرحًا وحزينًا، واقعياً وعبثياً فاعلًا ومسلوبًا للإرادة في مكانه وزمانه، وعلى نحو تتجلى فيه الجرأة والقصدية العالية والصدق في كتابة هذا النوع من القصيدة، إذ كثيرًا ما نجد في نصوصه تجليات الذات الشاعرة وهي تسكن زمكانها وتخلق أو تعيد خلق الحدث الذي كانه ليرى ما سيكونه في النص بعد أن يخضع للذاكرة بكل فلسفتها ورؤاها لتفعل فعلها في الحدث.
ولا نخرج بعيدًا عن هذه المنطقة التلاقحية لنسلط الضوء على القصيدة السردية التي كثيراً ما اشتغل عليها الشاعر، ووجد فيها ملاذًا لتجاربه الشعرية ذات الحس القصصي، وهذا النوع من التلاقح يحظى بأهمية بالغة من لدن النقاد والدارسين في حقل الدراسات النقدية من جهة، ومن لدن الشعراء الذين أعلنوا تمردهم على قوالب الشعر الكلاسيكية، فذهبوا باتجاه كل أو أغلب فنون القولية والبصرية والسمعية ليؤسسوا لنمطهم الشعري الخاص والجديد المعبر عن هويتهم الشعرية من جهة أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا ولا سيما في مجامعيه الخمس الأخيرة، التي تنوعت في توظيفاتها السردية المختلفة ومنها السيرية، وكذلك في تنوعاتها التقانية، فعلى هذا الصعيد مثلًا يحضر المكان بقوة كبيرة وهو في جله أمكنة سيرية عاشه الشاعر في مراحل عمرية مختلفة بدءًا ببغديدا معشوقة الشاعر ومكانه الأمومي الذي فيه ولد وفيه مارس طفولته، وإليه عاد بعد جولة في مدن العراق (أربيل والموصل وبغداد)، ومن يقف عند هذه الأماكن يرصد على نحو قوي تلك العلاقة القوية التي تعكس روح المواطنة العراقية الأصيلة، وذاك الحب العميق للأرض والوطن، ولقربي من هذا الشاعر الأصيل أعرف تمامًا كم كان وطنيًا في طرحه ومواقفه، ونحسب أن اشتغاله على المكان جاء بناء على هذه المعطيات وعلى تلك العلاقة الحميمية التي تربط الشاعر بالمكان، حاضراً وتراثاً تجلت في أماكن عديدة ومتنوعة بدءًا ببيت الطفولة وانتهاء ببيت الكهولة وما بينهما من أمكنة كانت شاهدة وصانعة لزهير بردى الإنسان والشاعر والتربوي، ويظل النهر، والحي الشعبي والمقهى، والمدرسة والمكتبة العامة في بغديدا، والمدن العراقية بغداد والموصل وأربيل، وتمثال أبو تمام،، أمكنة شاخصة وحية في وجدانه وشعره لا تندمل ولا تتحول إلى أطلال.
ومن الأجناس الأدبية التي ينهل منها الشاعر، المسرحية التي تعد جنساً عريقاً كانت ولا تزال منبعاً قرائياً ثرًا يقصدها المتلقي ليجد فيه ضالته وليتغذى عليه خياله وذهنه وذاكرته عبر تجارب حكائية وجدانية واجتماعية عميقة وكثيفة تكتظ بكل معاني الحياة حبًا وكرهًا، وحزنًا وفرحًا، وموتًا وحياةً، وواقعاً وحلمًا، وانتصارًا وهزيمةً، ووطنًا وغربةً، وصبرًا وسأمًا، والتي تشكل في تفاعلها الإنساني قيمًا حياتية وقرائية تسهم في تغذية الحكاية وتعزز رؤيتها التعبيرية والدلالية، على نحو ما نراه مبثوثة في مختلف مجاميعه الشعرية.
ويكتسب التلاقح الشعري مع المسرحي في شعره أهميته الجمالية من خلال تجسيده الرؤيوي للأسطورة والدين التي انطلقت فكرتها الوجودية من الخيال إلى الواقع، فنرى الشاعر يخلق حوارية تفاعلية تواصلية بينه وبين النص من جهة، وبين النص والقارئ من جهة ثانية، والتفاعل هنا لا نعني به الإقناع، ولكن الاشتراك في الاهتمامات وإدراك الأنساق التأويلية والتفاعل معها، وعلى ذكر الأسطورة لابد الإشارة إلى أن زهير بردى مولع بالأسطورة التي ظلت وسيلة وتقانة شعرية مهمة في شعره، وغدت مرجعية ثقافية وحضارية وتاريخية مهمة من مرجعيات نصه إلى جانب المرجعيات الأخرى التراثية، والدينية، والشعبية، والفلكلورية، والرمزية، التي عمقت كثيرًا من رؤاه وصوره الشعرية بكل بهائها التشكيلي والسينمي والفوتوغرافي المعبرة عن سيميائيات دلالية متنوعة، لتخلق في مجملها نسيجاً شعرياً ممايزًا له حساسيته ورهافته ودهشته الشعرية الخاصة.
ومن السمات المهمة في شعره أيضًا اشتغاله العتباتي المدروس بقصدية عالية، على نحو يعطي خصوصية فائقة للعتبات التي ترافق مجاميعه الشعرية، ومن يقف عند صياغة عناوينه مثلًا يجد قوة انزياح كبيرة تخلق معها صورًا شعرية بكيفيات تشكيلية وتدليلية متعددة تمنح النصوص العنواناتية والنصوص المتنية معًا جماليات قرائية تقود القارئ إلى حفريات معمقة للوصول إلى جوهر العلامات الشعرية. على أساس أن العلاقة بين العنوان والنص علاقة إسنادية، يشكل العنوان نواة للنص يمده بالمعنى النابض، ويقدم للقارئ معرفة أولية تضبط مسار القراءة، وهو علامة سيميائية تشكل في فضائها العام مجموع العلامات اللسانية التي يمكن أن تدلل على النص، وتعينه، وترسم فضاءه القرائي، ويعد المتن المسند الذي يستند عليه العنوان إذ لا يستطيع العمل من دونه لأنه بنية افتقار، لا تعمل بمعزل عما تعنونه، ولا تحمل في ذاتها صفة الإكتفاء الدلالي، الأمر الذي يستوجب من القارئ قراءة مرحلية لا تتجاوزه ولا تقف عند حدوده حسب، مما يدخل على فعل القراءة إمكانية قراءة العنوان قراءة طوافة، أي من العنوان إلى النص ثم العودة بها إلى العنوان ثانية.
أما المختلف في شعر زهير فيمكن رصده في قضيتين أساسيتين، الأولى تشكيلي والثاني موضوعي، وأما التشكيلي فيكمن في جنوحه نحو الانعتاق من قيود الأطر الشعرية والتحليق برؤية كتابية مفتوحة تقترب كثيرًا من النص المفتوح مع ميزة مهمة تبقي النص في فضاء الشعر، وهي التمسك بقوة الشعر الكامنة في اللغة والصياغة الأسلوبية المنزاحة عن المعنى المعجمي، مع انفتاح كبير على الماحول الأجناسي بكل تنوعاته الكلامية والسمعية والبصرية، على نحو تجعل القراءة الأجناسية لنصوص زهير في مجامعيه الأخيرة أمرًا شائكًا ومعقدًا، أفرزت معها إشكاليات قرائية أثرت النصوص ومنحتها شعرية خاصة، نابعة من فاعلية التهجين النوعي بمعناه الإيجابي الذي يعني تركيب نوعي جديد يستمد عناصره من مرجعيات معروفة، وإعادة صوغها على وفق قواعد مغايرة، تعمل على إرساء آليات وركائز قرائية جديدة تمنح النص رؤية ولذة قرائية خاصة، فزهير بهنام بردى حريص في هذا التوجه على غوض غمار ما بعد الحداثة التي تعمل على فتح آفاق النص على شعرية التمنع والمخاتلة التي تجعل القارئ في قلق وارتباك قرائي إذا ما حاول البقاء أسيرًا للقراءة الأجناسية التقليدية التي لا تقبل بكسر تقاليد القراءة الشعرية، فبمجرد دخوله إلى عالم النص يفلت من بين يديه خيوط القراءة النوعية إلى أفاق رحبة من القراءة المفتوحة التي تصعب معها الإمساك بزمام القراءة لتشكيل رؤية قرائية واضحة المعالم فيما يخص الآليات والأدوت المشكلة لأدبية النص. بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد عند زهير بردى، وإنما قام في قلب معادلة التلاقح بين الأنواع القائم على الحفاظ على العمود الفقري للنوع الذي يكتب فيه الأديب، فإذا كان يكتب في الشعر يحافظ على الجانب الشعري للنص مع الأخذ مثلا من السرد على نحو يمكن ملاحظة السردي في الشعري، وإذا كان يكتب في السرد يحافظ على الجانب السردي مع إمكانية الأخذ من الشعر على نحو يمكن ملاحظة الشعري في السرد، لكن زهير في مجموعته هذه يعقد ميثاقًا مع القارئ على أن ما تضمه هذه المجموعة تنتمي إلى عالم الشعر، ثم يتفاجأ القارئ في المتن أن المتسيد في هذا النص هو السرد وليس الشعر فضلًا عن تلاقحات أخرى مع فنون القولية والسمعية والبصرية، ومن هنا تأتي شعرية التمنع لترسم بمهارة عالية خيوط النص وتفتح أبواب النص مشرعة على الماحول الأجناسي.
أما القضية الثانية المتعلقة بالثيمة الموضوعية فكامنة في أن شعره ذكوري الهوى والتشكل، وما أقصده بذلك هو أنه مثلما ظهرت لدينا نظرية الجنوسة التي وقف الدرس النقدي عندها كثيراً في السنوات والعقود الأخيرة، يمكن لنا الحديث عن نظرية مقابلة تعنى بتسليط الضوء على الذكورة بوصفها ثقافة ومتنًا، ليس بالضرورة أن يقع عليها حيف كبير -كما هو حاصل في مسببات ظهور النظرية الجنوسوية- حتى نتناولها بالنقد والدراسة، وكل ما عدا ذلك من مسارب قرائية يمكن أن نجد لها مماثلًا أو مقابلًا أو مناظرًا أو ممايزًا في النظرية الذكورية، مع الإقرار أن لكل منهما كينونتها الخاصة ورؤيتها وخطابها. وشعر زهير يمكن أن يكون مثالاً تطبيقياً للخطاب الذكوري، ليس في تجسيده للفحولة التي نجدها في الموروث والحاضر الشعري العربي، والتي جاءت على حساب قمع الأنوثة، بل في تجسيده للنظرية الذكورية برؤيتها الحداثوية الباحثة عن شعرنة الوجود الذكوري، بما هو عليه، وما يحلم ويطمح إليه، والساعية إلى ترسيخ ثقافة وعلاقة جديدة مع الأنوثة بوصفها جزءًا رئيسًا ومكملًا لها، علاقة قائمة على التكامل من جهة، وعلى الإستقلالية في الهوية والتفكير والرغبة، والحرية في الفعل من جهة أخرى. وفي هذا الصدد نحسب أن الدراسات التي سلطت الضوء على الجسد في شعر الشاعر، وإن كانت قد أضاءت جانبًا من جوانب الذكورة عنده إلا أنها أغفلت عن جوانب كثيرة ظلت متوارية وممتنعة عن الكشف والاكتشاف، وبحاجة إلى تسليط الضوء عليها، هذا فضلًا عن أن دراسة الجسد لديه لا تشكل غير جزء يسير من النظرية الذكورية في شعره، من هنا نحسب -وبكل ثقة- أن تطبيق نظرية الذكورة بمفهومها الحداثوي المتصالح مع النظرية النسوية وليست العكس، على شعر زهير بهنام بردى يمكن أن يفضي إلى دراسة مهمة في الحقل الأكاديمي – في الدراسات العليا- أو في الحقل النقدي العراقي.