نوري بطرس
كاتب لا ينسى ومؤرخ حفر اسمه في ذاكرة التاريخ. والاحتفاء به وسرد مآثره ومنهجه التاريخي وسعيه في البحث والمعرفة هو ضرب من النشاط ليس وفاءً له فحسب، وإنما حمل على ذواتنا ومسؤولياتنا تجاه معين لا ينضب من المعرفة التاريخية. قد يحلو لبعضهم نسيانه مثل الكثير من الكتاب والمؤرخين الآخرين. ولكن مؤرخنا يبقى في ضمائرنا ونفوسنا حتى بعد رحيله سنوات وعقود، مادامت عنكاوا و كوردستان، لأنه كرّس قلمه في البحث عن تاريخ هاتين البقعتين وبحث في أعماق التاريخ والكنوز والمخطوطات ليحفر في بطون الكتب ويستنبط ثقافتها وحضارتها ووجودها التاريخي، وعلى قدر محبيه وقرائه ومتابعيه نبغي نحن الوصول إلى ما كتبه من ذخائر ومعارف تاريخيه تبقى في ذاكرة الأجيال، ولكن هذا السرد التاريخي لما تركه عزيز ليس مأتماً طقسياً نكرر أقواله وكتاباته ووصف مزاياه التي يعرفها الكثيرون ومن له دراية واطلاع بكل ما كتب بل فرصة للتقرب من روحه الجياشة في البحث التاريخي. وبهذا يكون الذين تابعوه وانصفوه وعرفوا شخصيته ونتاجاته أوفياء له، أما الذين قرؤوه من بعيد فقد اعتذروا باللسان البليغ، لسان القراءة وإعادة القراءة التي تحفظ ما بقي من الراحل إن لم يكن مأتمه تاريخياً لكونه مؤرخاً وكاتباً وسيكون طقس ندب حتى صرنا نرتجله ارتجالاً بعد كل إغماضة عين لمثقف أو متابع، نقرأ كأنه حي بيننا ويتحدث إلينا في تواريخه ومصادره ومراجعه ورحلاته في البحث عن المخطوطات والينابيع انه عزيز نباتي، نزحت عشيرته من كويسنجق الى شقلاوا ثم إلى عنكاوا. تاريخ عنكاوا (ص254) درس الابتدائية في عنكاوا ثم درس في دير شمعون الصفا في الموصل وتركه بعد ذلك ليتفرغ للأعمال الحرة، كانت بداية كتاباته في أوائل السبعينات حيث كتب مقالات عدة في جريدة العراق وأخرى مترجمة عن الفرنسية إلى العربية وبسبب عمله في مؤسسات أهلية عدة انقطع عن الكتابة لفترة قصيرة بعدها تفرغ للكتابة والتأليف، وكان دافعه الأول هو البحث عن (تاريخ) عنكاوا و اربيل وبدايات دخول المسيحية إلى حدياب، و(كورذولوجيا اربيل) ثم (الكرد والحق) وهو مترجم من الفرنسية، ونظم ورتب مخطوطات كنيسة مار كوركيس ومار يوسف في عنكاوا ووضع أرقاماً لها ومن ثم فهرس تلك المخطوطات، إلا أنها لم تطبع في كتاب مستقل حتى أكملها سيادة المطران جاك اسحق وطبعها في كتاب بعنوان (مخطوطات عنكاوا)، وكتب عزيز عدة مقالات لم تنشر في أية وسيلة إعلامية، لكنها نشرت بعد ذلك في كتاب بعنوان (مقالات لم تنشرها خبات) بالاشتراك مع مؤلفين آخرين.
ومن خلال صداقتي للمرحوم عزيز التي ابتدأت من الطفولة وامتدت لفترة ثلاثين عاماً عرفتهُ إنساناً يتحلى بالصبر، يخاف الله، لا يبيع كتاباته ونتاجاته لقاء حفنة من المال. لا يكتب إلا النافع الممتع، واثق من كتاباته وآرائه وطروحاته ومناقشاته مع الكتاب والأدباء والمثقفين داخل العراق ومع رجال الدين بمختلف رتبهم الكنسية، كهنة، أساقفة، مطارنة، وفي لقاءاته مع الكتاب والمستشرقين خارج العراق، عرفته كاتباً وأديباً ومؤرخاً له خصوصيته المميزة، متمسكاً بكلدانيته ومدافعاً عنها في كل المحافل والندوات والحوارات، ودراساته التاريخية لها صفة مميزة عن كتب من سبقوه، أعطى للتاريخ بعداً فلسفياً وتربوياً وكان غرضه في العرض التاريخي للأحداث إيصال المعلومة إلى الناس جميعاً، إلى القراء والمؤرخين والباحثين على حد سواء، لكل الحقائق التي كتبها في مؤلفاته كانت خافيه على الكثيرين، كتب بأساليب عدة في المقالة والبحث التاريخي، والتأليف، والترجمة، والمحاورة، ثم العمود الصحفي في الصحف والمجلات، وكشف كل هذا عن ثراء المعلومة التاريخية، وغنى المعلومات والمراجع، وثقافة واسعة، وهو بين هذا وذاك يحلق عالياً في آفاق معرفية، بقلم جذاب وأسلوب مرهف الحس والذاكرة، ليصدر الأحكام ويكشف الحقائق، ويحرث الرؤى، ويملأ صفحات وصفحات يثير العواطف، ويحرك مواطن الركود في الأفق التاريخي، وفي بحثه عن عنكاوا نبش الماضي في بطون الكتب والمخطوطات ليتوصل إلى معرفة الحقائق، ليكون عمله رائداً لأعمال أعظم في هذا المسار، يقول في مقدمة كتابه (تاريخ عنكاوا): انه استكشاف لمجاهل تاريخنا العظيم التي تراكمت عليه ترسبات الزمن أملي إن تكون عنكاوا هذه الدرة الناصعة في جيد منطقة (برانه تي) زاخرة بالعمران والمدنية والعلم والأدب، محتفظة بماضيها العريق، متباهية بحاضرها الزاهر. تبقى مشعلاً ومناراً لأخواتها الصغيرات من القرى المتناثرة حولها كالنجوم حول القمر سائرة على خطى أمها العظيمة اربيل- اربل- الشجرة الأم التي كانت ومازالت هي الأولى بين مدن العالم آهلة بالسكان منذ أقدم العصور.
تملكت كاتبنا نزعة الكتابة في فكر وهاج يضيء دروب الآخرين لا يأخذ الأفكار والآراء كما هي دون تمحيص أو تدقيق مراجعاً ينابيعها الأصيلة. فيما يزودها لهم بدافع المربي والمؤرخ الحريص بأسلوب رمزي مدهش وهو ثابت المبدأ، لا صولات ولا جولات لا يساوم ولا يهادن في الحق والحقيقة حتى صار له أعداء وأصدقاء، يحدث زوبعة عندما يكتب وينتقد، لذا تعددت الآراء فيه، بتعدد زوايا شخصيته المتنوعة المتجانسة حتى زادت السجالات بين النقاد والمؤرخين في تشخيص فرادته الغامضة العصية على الفهم، لا سيما إذا أدركنا إن المتناقضات قد اجتمعت في تركيب ثقافي جميل، يكتب بأسلوب يجمع بين الجد والمنطق، يمدح ويذم، يتأرجح بين التراث والمعاصرة في تواضع جم. حتى أصبح الكثيرون يتسامرون ويتحاورون بكل مقالة تطبع وكل بحث ينشر. سواء أكانوا نخبة أم من عامة الناس، قضى حياته مفكراً عنيداً يحاور التاريخ والزمان غير آبه بما تحمله الأمواج من مخاطر الإبحار بروح تستلهم الماضي وتضرب أقدامها في ارض بكر، وفي العصر الذي نعيش فيه كريح عاتية تجرف الركود والتقليد والتقديس. نشر وألف كتباً هنا وهناك، وعلى الرغم من تنوع ما نشر رفض الانغلاق والجمود والتعصب وكان حاد الذكاء، جريء، موضوعي، شديد التفرد، ليس بإمكانك إن تعرفه مهما اقتربت منه عن كثب وهو تلميذ الواقع والطبيعة والحياة، وتفرد في كل شيء، حتى في حركات يديه ونظرات عينيه، وصوته، وعندما تحين الفرصة وأنت جالس بجانبه تشعر بأنك تواجه مفكراً جياشاً متدفقاً صلابةً وإقداماً، هذه الصفات قلما تجتمع في مؤرخ وكاتب نذر نفسه للبحث والتقصي. انه جبل ثقافي أصم. لا ينتمي إلى مدرسة معينة غير مدرسته هو، أنها مدرسة الحياة والواقع، سرعان ما تتكشف الأفكار والرؤى كما تتكشف للصوفي شموس المعرفة وهو زاهد لا يهمه مدح الأخرين، يطيل الحوار مع من يريد حتى تتوضح الحقائق، يقرأ بروح الناقد لا بروح الناقل، لا أروع ولا ألطف ولا أجمل مما كتبه في هذه المرحلة قبل رحيله المبكر وهو في قمة عطائه ونضوجه الفكري، ينسج أساليب التاريخ بخيوط ذهبية لترى ملحمة خاصة لم يفكر بها احد. ترجم كتاب (الكرد والحق) لمؤلفه لوسيان رامبو ونشرته وزارة الثقافة في إقليم كوردستان سنة1998 وكتب مقدمته الدكتور كمال مظهر حيث يقول: ومن بين مؤلفات توما بوا كتابه الكرد والحق له مكانة خاصة لما انطوى عليه من معلومات مفيدة بخصوص تاريخ الكرد وأدبهم وحياتهم الاجتماعية والثقافية وموقع بلادهم مما جعله مصدراً موثوقاً، وهذه الترجمة للكتاب تبرز جدارة صاحبها وتبعث الاطمئنان في النفس بخصوص أمانته التي يصعب على من لا يعرف الفرنسية إصدار حكم قاطع بشأنها ويقول عزيز في مقدمة الكتاب: إننا اليوم في عصر لغة الحوار، إن ترجمتي للكتاب هي جزء من واجب يحتل الصدارة تجاه وطني وشعبي علها تكون عاملاً للبناء والسلام. اعرفوا كل ما تريدون هذا هو تاريخكم.
راح عزيز في كتاباته التاريخية يتخطى بهدوء ذلك البحر المتلاطم وأمواجه العاتية عندما أبحر في أعماقه ويضع إكليلاً من الورد ليتنفس الجمع من خلاله هواءً نقياً صافياً، وأنفاساً عليلة، يسير على الشاطئ الرملي دون أن تغوص قدماه. ربما لكي يتعرف عليه الآخرون، لم يذع له سر إلا لتلك اللؤلؤة التي أخرجها من الأعماق ولطالما غرق في بحرها من لم يعرف العوم في كل رؤياه.
إن الكتابه عن عزيز ضرب من التحدي. وقراءه طروحاته التي تروم فحص طبيعة نصه وخطابه لكي يدخل القارئ والباحث في متاهات البحث التاريخي وفضاءات لا حصر لها ولا حدود ودلالات النص الذي كتبه تؤسس لخطاب مؤرخ متجدد، والكتابة عنده تأسيس لكل اختلافات الوعي. والبحث عن الجدل الحضاري وفهم طبيعة الصراع البشري مع الأخذ بنظر الاعتبار النظرة العقلانية الشاملة في الطرح التاريخي- الحضاري، لأنها مقولات اساسية في نصوص كتابات عزيز ومسارات تاريخ شعبنا وسجالات ثقافية ونصوص نقدية تفتح على مجالات عدة، وفي هذا ترجم (كرنولوجيا اربل) الذي نشرته دار ئاراس سنة2001 يقول الكاتب في مقدمة كتابه المترجم. نبحث في نصه السرياني مع ترجمته الفرنسية ومخطوطته البرلينية التي طبعها بيتر كافيراو مع ترجمة ألمانية، انه تاريخ كنسي حول نشأة الكنيسة وحياة الأساقفة في تاريخ حدياب اربيل. ولابد من كلمة عن مؤلفه الفونس منكنا والمنهج العلمي الذي اعتمده في هذه الدراسة. أما نحن أبناء الشرق ففي غفلة من ذلك، ولا نرى إلاّ حالات نادرة لمغامر يقتحم هذه الغابة البكر ليكشف لنا مجاهلها.
في ترجمة كتابه هذا يؤسس لمنطق العقل والتوازن في آليات التفكير الديني والكنسي لمنطقة حدياب وما جاورها انه تاريخ يتحرك نحو كل الجهات. ولذلك يبدو إن دراسة التاريخ لدى عزيز نباتي هي تقوية شعور المواطن للاعتزاز بتاريخ شعبه وأمته لما يحتويه من أمثلة للناس الذين واكبوا تجربة أحداثها ويكون نبراساً للأجيال القادمة حيث يعطي التاريخ دفعة لاستكشاف مآثر امتنا ووطننا أينما نحط الرحال وقوة خلاقة لحاضرنا ومستقبلنا في كونه كشف للحقائق وبواطن الأمور. ومن خلال معرفة الأدوار والعصور والأزمان والحوادث التاريخية والشخصيات التي مثلت هذا الدور ولكن السجايا والصفات التي تجعل الباحث اقرب إلى الحقيقة في الجد والمثابرة والعمل والمتابعة والترحال بحثاً عن كل جديد في ما كتب وما نشر وما قيل في صفحات الكتب والمجلات والأبحاث في المؤسسات والكنائس والمكتبات ومراكز حفظ المخطوطات ولقاء الباحثين والمؤرخين ومعرفة دراساتهم وأبحاثهم.أن الكاتب الحر والباحث الدؤوب الذي رهن حياته وجهده الفكري من اجل القيم التي اشترك في البحث عنها: قيم العدل والحرية والمساواة، ولا تزال ذكراه ماثلة في أعماق كل من عرفه او صادقه في رجل كلداني حميم امتزجت في روحه المحبة والتسامح بالأمل والثقة من اجل العطاء. توفي وهو في جذوة العمل الخلاق من اجل ثقافة ميسرة. ولم يزل هو واثقاً من إمكانية العمل والسعي بخطى عميقة نحو الوطن الذي حلم به، لم يبحث عن المراكز والمناصب والمواقع مع إن ثقافته العميقة وشخصيته العصامية وتاريخه الشجاع يؤهله لكل تلك المواقع التي ترفع عليها مكتفياً بالعمل المخلص وحده من اجل الثقافة والتاريخ. فكان أنموذجاً للالتزام بما يوحي إليه ضميره النقي النظيف من شوائب ما يحيط به. من يعوضنا عن تلك الجهود التي بذلها لنا في البحث وتحقيق المخطوطات وكتابة التاريخ، رحل مبـــدع
آخر من أصدقائنا ليلتحق بقافلة الفكر وهو في قمة العطاء الفكري، لكنه سيبقى علامة مضيئة ويسلم الرسالة إلى جنود الكلمة الحرة والثقافة الرصينة، رحل في وقت كنا احوج اليه في بناء فكري صحيح يكون مناراً في بناء ثقافة المجتمع، كان يعمل بصمت ويعرف جيداً ماذا يعمل وبذلك خسرت ثقافتنا واحداً من أهم رموزها المتنورة. فقد كان طاقة كبيرة تشع بنداءات وأفكار تلهم الآخرين وتدفعهم إلى حوار خصب في قضايا إشكالية كبيرة تتعلق أساسا بهموم الواقع الثقافي، وكثيراً ما لمست عن كثب ذلك العمق الهادئ الذي تختزنه هذه الشخصية فهو يخطط لما يبحث عنه ومفكر قادر على أن يختزل إشكاليات كبيرة في نقاط موجزة. عرفته إنسانا ًوباحثا ومفكراً في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات التي حضرها وشارك فيها. وقدرته الكبيرة في التعامل مع الآخرين، إنسان ومفكر وكاتب ومحاور من الطراز الرفيع وشخصية وطنية دون تصنع أو عطاء. هذا الرجل الرصين العامل بصمت الحكماء وصبر المتفائلين وحلم التنويريين ونزاهة الزاهدين حامل مصباح ديوجين الذي نبحث بواسطته عبر مرايا النهار عن رجال يشبهونه أو يقاربونه في الخصائص والزهد والنزاهة ونحن اليوم منقسمون في نهارات القبلية والانتماءات الفرعية والتسميات والأهواء وقد مزج بين المثقف المحايد العقلاني الناقد وأمانته العلمية وموضوعيته النادرة وهو الأكثر التصاقاً برهانات الحلم الاجتماعي والانساني.
كان يخطط لرؤية مستقبلية منفتحة على آفاق معرفية وتجارب فكرية جديدة. كان مهموماً بفكرة الهوية المحلية والهوية الثقافية ومسارات الحوار والتواصل والمعرفة، لان المثقف هو المرشح الساخن منذ سقراط والى الأبد لالتهام تفاحة النرجسية وتضخم الأنا والاستعلاء والإحساس بالفوقية. لكي لا ننسى أن تواضع المثقف وفلسفته وإيمانه الذي لا يتزعزع بشرف الكلمة هي العلامات المضيئة في مسيرة المثقف، ولكن هي علامة فارقة في مسيرته الثقافية، كان كاتباً وباحثاً مرموقاً لا تنتهي من مقالته إلا وتشعر بقيمتها وبإضافتها شيئاً إليك، وكان متواضعاً مع الآخرين، ولكن لاتشعر بذلك إلا عندما تقترب منه عن كثب وتصغي إلى كلماته وملاحظاته وأفكاره. وكان لدى المرحوم عزيز مشاريع ثقافية وطموحات فكرية كثيرة، كان منشغلاً بانجازها، كان بوده أن يكتب الكثير عن تاريخنا القديم والحديث وعن دوره الثقافي عبر الماضي والحاضر، اغرق نفسه في عالم الكتابة والتأليف والنشر كأنـّه طقس يومي بعيداً عن ضجيج الحياة لتنمية ضميره ومعنوياته إلاّ أنه لم يعتزل في صومعته مثل الرهبان وإنما كان دائم الترحال ليبحث عن المخطوطات والكتب القديمة ليشبع جوعه الفكري وبحثه الدؤوب عن ينابيع المعرفة، حتى غدت الحياة لديه ميداناً رحباً يتسع لظهور وتطور أعمق التجارب، وهو الموضوع المتكرر في حلقاتنا النقاشية العفوية فكنا نتحدث عن موضوعات تاريخية ودينية ومعرفية وفكرية وثقافية وكان يرفدني بمطالعاته في هذا المجال وإعجابه بالفلاسفة المسيحيين في مختلف العصور ودعمه لمفهوم حوار الأديان والثقافات وإرساء قيم الاختلاف واحترام الأخر، والاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة وترسيخ العقلية الحرة المتفتحة. ولكنه ظل يسعى باستمرار لصياغة آمال جميلة لمستقبله الثقافي وابتكار عالم مشبع بالأفكار والرؤى، وحينما كنت ادعوه للكلام تراه يفيض رقة ودفئاً ويطرح وجهات نظره على شكل مقترحات وأراء وفرضيات مختلفة مع وفرة ما يسوقه من تفسيرات وتوضيحات وبراهين عليها، يعمل بصمت ويتفاءل؟! عن العوائق والعقبات الموضوعية في طريقه، كان مثابراً عن كل عمل أو مشروع ثقافي على انجازه والانهماك فيه، ولا يستسلم مهما كانت المتاعب والأوجاع والمعوقات.
وكان شجاعاً في اختياره أنواع العمل الثقافي والسياسي. تلك الأنواع التي تحتاج من صاحبها أن يكون مبدعاً في ميدان عمله، وان يكون قادراً على حمل أعباء المغامرة في ممارسة إبداعه وحساب دقيق للمفاجآت وان يحسب لها حساب، والأحلام التي عاش من اجلها ستظل قائمة في وجدان أصدقائه ومحبيه ورفاقه من المثقفين والكتاب والأدباء، ومن إشعاع هذا الخزين المعرفي وفي استلهام قيم الحكمة والمعرفة كي يعبروا عن إصرارهم على السير قدماً في نشر الثقافة الإنسانية وتعزيز مكانة الثقافة والمثقفين في وطننا. والتاريخ أيضاً مختبر لإعادة صياغة الهوية وهي هوية مفتوحة على التاريخ وتقلباته وصراعاته كقطعة من طين الصلصال.