إيلياب الآشوري بين المتخيَّل والتاريخ لإبراهيم كولان

صباح هرمز

ليس بوسع كل راوٍ، أو كل من يجيد كتابة رواية، أحداثها وشخصياتها مستمدة من التاريخ، أن يجمع بين ثناياها عنصرين يتنافران مع بعضهما، وهما الوثيقة التأريخية، والفن الروائي، ذلك أن الشخص الذي يختار مثل هذا المنحى، ليس مطلوبًا منه أن يكون ملمًّا بتقنات السرد فقط، وإنما فضلً على ذلك، أن يكون قد أحاط في خزينه المعرفي بفيض من المعلومات عن الحدث التاريخي الذي يتصدى له. وإبراهيم كولان، مؤلف هذه الرواية، عندما وجد نفسه مؤهلً لخوض هذه التجربة الصعبة، لم يتوان عن التصدي لها.

وارتأى أن يتخذ من حروب الإمبراطورية الآشورية التي خاضتها مع مملكة بابل والعيلاميين ومصر في عهد الملكوك

سنحاريب وأسرحدون وآشور بانيبال، المحور الرئيس لأحداث روايته. لذا فإن رواية (إيلياب الآشوري)، وإن بدت للوهلة الأولى، روايةتأريخية، إلآ أنها لا تخلو من مقومات الرواية الفنية، وتتوافر فيها معظم العناصر الناجحة للرواية الحديثة.

واختيار هذا الحدث التاريخي، لم يأت اعتباطًا، أو من فراغ، بل ارتباطًا بالحاضر. ليذكرنا بحروب صدام المتعاقبة، في الداخل مع الكورد، والأحزاب المناوئة له، ومثلهما مع رفاقه أيضًا. وفي الخارج مع إيران تارة، وتارة أخرى مع الكويت، إلى أن جاء سقوط مدينة بغداد، على يد أمريكا والدول المتحالفة معها، كما سقطت نينوى على يد البابليين. وبهذا يكون السارد قد اختار الجانب السلبي للإمبراطورية الآشورية، وليس الوجه الحضاري المعروف عنها، عبر شنّ غزواتها على هذه الممالك، والقيود المفروضة على حرية الرأي، من خلال كم الأفواه، وتسخير الطبقة الفقيرة والمظلومة، وهي الغالبية من أبناء الشعب، لقتال العدو فقط، حفاظا على حياة الطبقة الحاكمة، والمكاسب والمغانم التي يجنيها الحكام من هذه الحروب. لتعيدنا هذه المكاسب والمغانم إلى دخول العراق في الكويت، العام 1991، أي قبل ثلاثين سنة، عندما سطا المسؤولون على كل ما هو ثمين

ونفيس وجلبوه معهم إلى العراق.

تقع هذه الرواية في (208) صفحات من الحجم الكبير للنسخة الورقية، أقول للنسخة الورقية، لأنني قرأتها وهي ما تزال

مخطوطة، أي قبل طبعها وإصدارها في كتاب، موزعة على (16) وحدة رقمية، مقسمة كل وحدة إلى عدد من الأجزاء، وقد جاءت كل واحدة من هذه الوحدات تحت عنوان معين، جاءت بادئة الوحدة الأولى بعنوان (بطل إليبو)، والوحدة الأخيرة بعنوان (النهايات).

اِحتوت الوحدة الأولى على 5 أجزاء، والثانية 8 والثالثة 4 والرابعة 6 والخامسة والسادسة والثالثة عشرة، كل واحدة منها على 5 والسابعة والعاشرة والثانية عشرة على 4 لكل واحدة منها، والرابعة عشرة على 6 والتاسعة والحادية عشرة على 3 لكل واحدة منهما.

وبذا تكون الوحدة الثانية البالغ عدد وحداتها 8 أكبر الوحدات في الرواية، والتاسعة والحادية عشر أصغر الوحدات.

وأنا أقرأ هذه الرواية، تمثلت (بخديدا) أمام ناظري، أو كأن أحداث الرواية قد جرت قبل سبعمائة سنة ونيف، قبل الميلاد، في مدينة بخديدا، عندما كانت قرية صغيرة. أو كما يسميها السارد (حي)، تراءت لي كذلك من خلال وصفه لبعد الحي الذي يسكن فيه )إيلياب) الشخصية المحورية للرواية، مسيرة ساعات لجهة مشرق نينوى، ليجعل من أدب بخديدا، (ديتا)، ذات الاسم الأكدي القديم )بكديدو)، حيث ولد، مرادفًا لاسم المكان الذي يعيش فيه. ذلك أن مفردة بخديدا ما عدا تشابهها إلى حد كبير مع مفردة بكديدو، فإن وقوعها شرقي نينوى، وبعدها مسيرة ساعات مشيًا على الأقدام، تؤكد كل هذه الأسباب، أن السارد الضمني يمنّي نفسه، أو يحلم بأن بخديدا في عهد الآشوريين كانت تسمى (بكديدو)، أو أن بخديدا هي بكديدو نفسها.

كما أن قربها من طرق القوافل التجارية، يشي بازدهار الحالة الاقتصادية فيها، وهو بذلك إن شئنا التأويل، يجري مقارنة بين

وضعها الاقتصادي السابق والحالي. وهكذا أيضًا بالنسبة لساحاتها الشمالية التي تعمها مراكز لتدريب الجنود والتي تشير إلى

قوة وعظمة الدولة الآشورية، في إشارة واضحة إلى المقارنة بين وضع الآشوريين السابق والحالي، من خلال تردي وضعهم

الاقتصادي، وضعف موقفهم، قياسًا بالقوميات الأخرى التي تقطن العراق حاليا.

ولعل هجرة معظم أبناء هذه الطائفة إلى خارج العراق بشكل جماعي، ولافت للنظر، أثبت دليل على ذلك. لأن طبيعة الرواية التاريخية تتطلب من الراوي المراوغة بين المحتمل والواقعي، فإنها غالبًا ما تنأى عن نقل كل الأحداث، وتكتفي بنقل الأحداث الكبيرة التي تنسجم مع خطابها. وتبعًا لذلك فإنها إن اختلفت مع الرواية الفنية في الجزئيات، لكنها تتفق معها في العموميات، كاختيار شخصية، أو أسرة، ليجري من خلالهما رسم معالم وأبعاد هذه الشخصية، والوقوف على طبيعة هذه الأسرة، بهدف الكشف عن التكوين الجمالي للرواية، كما في شخصية إيلياب وأسرته، على سبيل المثال، ومن ثم تفكيك عناصرها وبنائها من جديد من قبل المتلقي على كلا الصعيدين، وإعادة قراءة التاريخ وكتابته من جهة، وإنتاج الرواية من جهة ثانية.

واللافت للنظر أن بناء الرواية، يقوم على الخلافات السائدة بين الأسر نفسها، كالخلاف بين سنحاريب وزوجته (زاكوتو)، على سبيل المثال، وإيلياب ووالده، و (أدرملك( و)شراصر) مع والدهما سنحاريب، كما يقوم على الصراع بين الحكام، كالصراع الناشب بين سنحاريب وأحيقار، والصراع بين الحكام والشعب، من خلال سوق الأخير إلى الحروب، تحت ذريعة

إنزال غضب الآلهة على الذين لا يشاركون في الحرب، والظلم الذي يلحقه هؤلاء الحكام بالفقراء والكهنة على حد سواء من

أبناء هذا الشعب المغلوب على أمره، كما ظلم آشور بانيبال الكاهن الذي دخل المكتبة دون أن ينحني له، ليطرده منها، وضرب العبد لمجرد أن يظهر بأنه ذو سطوة.

إن الاختلاف الأبرز بين الرواية التاريخية والرواية الفنية، هو في التزام الرواية التاريخية بسرد الأحداث بشكل متسلسل

ومنتظم، بعكس الرواية الحديثة التي تعتمد في سردها على عدم الانتظام والفوضى. أو كما جاء في الكوبيديا: (إن الرواية التاريخية ضرب من الرواية، يمتزج فيه التأريخ بالخيال، بهدف تصوير عهد من العهود، أو حدث من الأحداث الضخام بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ، ولكن من غير تقيد بها أواإلتزام في كثير من الأحيان (1)(.

كما في هذه الرواية التي نحن بصددها الخارجة عن هذا الالتزام، حيث بدأ السارد الضمني، يسرد أحداث الرواية وهي تشرف

على نهايتها، وليس من بدايتها. لذا فإنها مثل خطابها وهو الحرب تتحرك بشكل دائري، دون أن تكون لها القدرة على الانفتاح،

وإيجاد البديل الناجع للانغلاق الذي طوقت به نفسها، ألا وهو الحرب.

تبدأ هكذا: )ها قد تجاوزت الثمانين، فأرى الثمانين حملً ثقيلً، لم يبق معي من كان معي، بعد أن رحل أبي وأمي إلى دار الآخرة، وفقدت أغلب معارفي وأصدقائي …(. وتنتهي: (ها قد جاوزت التسعين وبلغ مني الهرم وغشى بدني الوهن، لم يبق لي إلّ أن يمنحني الإله الراحة الأبدية بسرعة …(.تدور الرواية في ثلاثة محاور. المحور الأول هو الحرب، والمحور الثاني تتناول فيه عدم أخذ الأبناء بنصيحة الوالدين، من خلال عدم امتثال (إيلياب) لطلب أبيه، بأن ينأى بنفسه عن الالتحاق بالسلك العسكري، والمحور الثالث هو عن خيانة الأبناء لآبائهم، والاقتتال بين الإخوة للاستيلاء على كرسي الحكم.

والمحاور الثلاثة، الحرب، وعدم أخذ الأبناء بنصيحة الوالدين، وخيانة الأبناء لآبائهم، إن شئنا التأويل، تلتقي الثلاثة مع بعضها بعضًا في نقطة واحدة، وهي أن إغراءات الوصول إلى المراكز المتقدمة في الدولة لا شيء أمامها يردع الإنسان من أن يتحول إلى حيوان يتقاتل مع بعضه (المسخ)، ويقضي على غرمائه من أجل البقاء والحصول على وجبة طعام، أمام هذه هذه الإغراءت، لا شيء يردع أن يقتل الابن والده ليتبوّأ هو كرسي الحكم، كما فعل (أدر ملك) ومعه شقيقه (شراصر) نجلا سنحاريب بقتلهما والدهما، حينما كان جاثيًا على ركبتيه أمام تمثال نسروخ في خشوع، والكهنة يتلون التراتيل. أو إهمال إيلياب لوالديه المسنين إلى أن يلقيا حتفهما في زريبة منسية، بل انساق لاهثًا وراء نجاحاته للوصول إلى المناصب العليا، بلوغًا حكم آشور، إلى الحروب مع الدول الأخرى حتى لو أبيد نصف سكان الإمبراطورية. كما فعل كل الذين استلموا الحكم في العهد الآشوري، إبتداءً من سنحاريب، مرورًا بأسرحدون، وانتهاءً بآشور بانيبال.

يذكرني مصرع سنحاريب، على يد نجليه، وقد أصبحت المدينة في فوضى، وفرار الجنود وسرقة الغلال من قبل أفراد الشعب، يذكرني بسقوط بغداد، أثناء دخول الأمريكان مع الدول المتحالفة معها إلى العاصمة العراقية، وقد تحولت إلى مدينة أشباح، أقرب إلى مقبرة مهجورة لا يسكنها إلّ الموتى والحرامية واللصوص، منها إلى مدينة مأهولة بالسكان، وقد خرج الأربعون لصًّا من القوارير الواقعة في نهاية شارع السعدون بين حيي الكرادتين، في ليلة ليلاء، وتوزعوا في العاصمة بغداد.

مثلما لم يعّول السارد على عدم سرد أحداثها بشكل متسلسل ومنتظم، كذلك فلم يعتمد على كل أحداثها كما جرت، وعلى معظم

شخصياتها كما دونت في بطون التاريخ. لذا فإنه مزج المتخيل بالتاريخ، والعكس صحيح أيضا، التاريخ بالمتخيل، كما في حادثة مقتل سنحاريب، على سبيل المثال. ففي الوقت الذي تشير فيه السجلات والكتاب المقدس إلى أن سنحاريب ربما قتل على يد أحد أبنائه، في الوقت نفسه يعتقد البروفيسور (سيمون باربولا)، أن (أردا موليتسي) قتل الملك على أمل أن يخلفه. كما أن شخصية إيلياب ووالديه شخصيات متخيلة، فضلً عن النصائح والحكم التي يسديها والد إيلياب إلى ابنه التي أدب تبدو لي أنها أقرب إلى شخصية أحيقار الحكيم المعروف بنصائحه الحكيمة، منها إلى شخصية والد إيلياب، ولهذا أطلقت عليه

صفة الحكيم، فضلً عن إظهاره بصورة المتآمر على سنحاريب.

بحسب ما جاء في كتاب (حكم أحيقار( المكتوب عام 500 قبل الميلاد: (كان أحيقار وزيرًا لكل من سنحاريب وأسرحدون، وقد قام بتبني ابن أخيه (ناداب) لكي يخلفه. لكن الأخير يخون عمه، ويبلغ أسرحدون بما ينوي أحيقار الإقدام عليه، فيسجن أحيقار في انتظار إعدامه. غير أنه يخبر المسؤول عن عملية الإعدام كيف أنقذه من الموت سابقًا، فيقوم هذا بقتل أحد السجناء بدلً منه. بيد أن نسخًا أخرى تذكر هربه إلى مصر ومن ثم عودته منتصرًا إلى منصبه بعد إثبات إخلاصه لأسرحدون(2).(

لوحدة الموضوع في الرواية القائم على الخيانة والتآمر، لم يلتزم السارد الضمني بما جاء في الشطر الثاني من الحكاية، وإنما

بالشطر الأول منه، وهو خيانته للملك والإمبراطورية الآشورية.

إن أحيقار بالرغم من تصوير الجانب السلبي لشخصيته، إلّ أن المتلقي يتعاطف معه. وهذه النقطة مهمة، لأنه لم يقنع إيلياب

فقط بطروحاته السديدة حول مساوئ الحروب الطاحنة التي يخوضها الآشوريون ضد الدول الأخرى، وما ستسببه لها من

مشكلات، إنما المتلقي اقتنع هو الآخر بها.

وها هو إيلياب بعد لقائه الأول بأحيقار، يخرج منبهرًا مما سمعه ورآه منه وهو يقول: )أتأمل كل كلمة وحكمة قالها، أخذت تنتابني أفكار غريبة، أهناك آلهة لا نعرفها؟ شعرت بأنه فتح مغاليق كثيرة في عقلي، غفرانك إلهي آشور(. كما أن زوجة سنحاريب (زاكوتو) بالرغم من تصويرها بسطوتها على تقاليد الحكم، وتتمتع بقدر كبير من الاعتداد بآرائها، غير أن قوة شخصيتها، ونظرتها إلى بابل كما لو كانت أخت نينوى، في الوقت الذي تتفق في هذه النظرة مع أحيقار، تكسبها في الوقت

ذاته، عطف المتلقي. هذا العطف الذي ينسحب إلى أحيقار أيضا. وها هي تقول لابنها أسرحدون: )أتعرف لماذا أحبك يا

أسرحدون؟ لأنك تنظر إلى بابل مثلما أنظر إليها أنا، إنها الأخت، خلافا لأبيك(. لتذكرني هذه العبارة بالصراع القائم بين الآشوريين والكلدان في هذا العصر، والتشرذم الناجم بين الكنيستين. أو كما لو كانت زاكوتو، تدعو الكنائس والطوائف المسيحية في العراق إلى الوحدة.

كان والد إيلياب الآشوري طبيبًا شعبيًّا لحي بكديدو، وكان يحب أن يعلمه صنعته، ويمنحه نصائحه الكثيرة، ولكن النصيحة التي كان يرددها على أسماع ابنه أكثر من غيرها من النصائح هي ردعه: من )أن يتجه صوب الكبار من المناصب ورفيعي الشأن وكل من له سلطان، ذلك لأنه ليس من طينتهم(. إلّ أن الابن، بعكس توجهات والده: )كان يمنّي نفسه، حين يكبر، أن يكون جنديًّا، ويجول على فرس والسوط في يده(. ابتداءً من هذا الخطأ الذي يقع فيه إيلياب، بعدم التزامه بنصيحة والده الموازي للخطأ الذي يقع فيه سنحاريب، في خوضه للحروب المتوالية، اللذين يؤديان إلى سقوط الاثنين، إيلياب وسنحاريب في المستنقع نفسه، وهو مستنقع حب الجاه والثروة والمناصب. إيلياب من خلال ذكائه ومثابرته واجتهاده في كل الوظائف التي شغلها، وسنحاريب عبر فرض إرادته وقوته على عدد كبير من المماليك.

ولكن الأول على حساب إهمال والديه، والثاني على حساب تقديم دماء شعبه قربانًا لغزواته. لجأ السارد الضمني إلى النأي بروايته عن المباشرة والتقريرية عبر استخدام ثلاث تقنيات، تكاد أن تكون قريبة من بعضها، إن لم تشكّل الثلاث الحالة نفسها، أو لحالة واحدة، وتصب في المنحى ذاته، وهي تقنية الإيحاء، والحلم، والتنبؤ عن طريق العرافين، لتكوين تشكيلات جمالية، وبلوغ هذا السقوط.

1. تقنية الإيحاء:

تطفح الرواية بهذه التقنية التي تشي بمديات توق إيلياب لأن يتحلى بما يميزه عن غيره، شروعًا من الصفحات الأولى لها. ولعل قوله: )… كبرت وحيدًا متمتعًا بما يغدقه أهلي وأقربائي وجيراني عليّ من هدايا، فهم يهتمون بما أريد وبما أتمنى، محميًّا خلافًا لأولاد الآخرين الذين يتعفرون بين التراب والطين(. أدل نموذج على ذلك. كما أن: )إعجابه بالعجلة الصغيرة المصنوعة من البرونز التي أهداها له التاجر الذي تعثرت بغلته وأخذت تعرج، مستغنيًا عن عجلته القديمة( هذا المقطع هو الآخر يدل على حبه للجديد، وطموحه في مستقبل زاهر. ومقطع: )بعدها عرفت أن نينوى الصاخبة المكتظة بالناس والباعة ومئات القوافل والجنود والجيش، هي السبب في كل هذه المشاعل والأصوات، أمنّي نفسي حين أكبر أن أكون جنديًّا(، مثله

مثل المقطعين السابقين، يمنح المعنى ذاته. ومقاطع كثيرة أخرى لا مجال لذكرها هنا.

2. الحلم:

يبدأ من ألم في رأس الملك سنحاريب، وينتهي بالكابوس الذي يأتيه في كل ليلة في المنام، وفي كل مرة يقف أمامه هذا الهالك )توبيت( ليقول له، إن مقتله سيكون على أيدي أحد أولاده، وإن خراب نينوى بات قريبًا. وهذا ما يحدث فعلا، إذ يقتل على أيدي كليهما، ويعم الخراب نينوى، بسقوطها على يد بابل.

3. من خلال تنبؤ العرافين:

يبدأ من قول العراف للملك: ) مولاي سترى أولادك يجلسون على العرش، وينتهي في جملة: )النتيجة غير ملائمة(. مثلما عمد السارد إلى استخدام تقنية الإيحاء، فقد لجأ كذلك إلى استخدام تقنية )الأصوات المتعددة(. )تتكشف التعددية حالما تدخل الشخصيات/ الأصوات في حوار جدلي يكشف عن جوهر القضية المطروحة بشرط وجود تناقض في هذه الأفكار، أي أن الاختلاف في وجهة النظر هو أساس بروز الأصوات المتعددة() 3(. لكون إيلياب الشخصية المحورية للرواية، وساردها، فمن الطبيعي أن يعلو صوته على أصوات كل شخصياتها. واتساقًا مع وجود تناقض في هذه الأفكار، فإن صوت إيلياب يتناقض أول ما يتناقض مع والده، لأنه اختار لنفسه توجهًّا مغايرًا للتوجه الذي أراده له، وهو تجنب انخراطه في السلك العسكري. كما أن صوت والده يتمظهر كلما وقع إيلياب في خطأ ما. وهو يقول له: )كم من الأيام مضت دون أن نراك؟ لقد أصبحت ملك المعبد وليس ملك أهلك… ها قد سقطت فيما حذرتك منه، أن تعمل مع القادة والأمراء(، كما أن صوت الأب بالإضافة إلى ذلك، هو إيحاء إلى ضياعه وبالتالي ضياع والديه، وتعرضه للمخاطر.

ليس صوت هاتين الشخصيتين هو الذي يطفو على سطح أحداث الرواية فقط، بل أصوات شخصيات أخرى فيها، مثل شخصية زاكوتو وشخصية أحيقار، في اختلافهما مع توجه سنحاريب الرامي إلى توسع إمبراطوريته. وكذلك صوت )يونينا( التي تتودد إلى إيلياب

بهدف مساعدتها للهروب من نينوى ويأخذها معه إلى الإقليم الذي جاءت منه. علاوة على صوت نجلي سنحاريب أدر ملك وشراصر. فضلا عن صوت )توبيت( الذي يراه سنحاريب في حلمه، كابوسًا ثقيلً، محذرًا إياه في مصرعه على يد أحد أبنائه. في الحوار الدائر بين زاكوتو وابنها أسرحدون وإيلياب، تتكرر مفردة )اللعنة( أربع مرات. هذه اللعنة التي بدأت بمرض سنحاريب، وتنتهي بخراب آشور، مثلها مثل الخراب الذي تعرضت له بابل على يد سنحاريب والملوك الذين سبقوه على دست الحكم. وما عليهم إلا أن يمسحوا هذه الخطيئة كما تقول زاكوتو، وبعكس ذلك سيبقى غضب الآلهة وانتقامها يلاحقهم. ولكن لأنهم لم يمسحوها، فحل بآشور ما حل. ومازالت تلك اللعنة من عام 705 قبل الميلاد وإلى يومنا هذا تلاحقها، وعلى ما يبدو، لا نهاية لها، وستظل كذلك إلى الأبد، بفضل انشقاق الكنائس، وتشظي

من سوّلوا لأنفسهم قيادتنا لمآربهم الخاصة.

ليس غريبًا ألّ يربط أسرحدون بين بابل وآشور، والعلاقة الوشيجة القائمة بينهما، وتصيبه الدهشة، أو العجب، عندما تشير والدته إلى

اللعنة التي ستصيب آشور، جراء الحروب التي تشنها على بابل، لأنه استلم الحكم بعد مصرع والده، وهو في سن لا يؤهله لقيادة

الإمبراطورية، وربما لعدم اهتمامه بهذه المسألة كذلك، بمسألة صلة الأُخوّة التي تربط بين نينوى وبابل، بقدر اهتمامه بملذاته الشخصية، شأنه شأن ابنه آشور بانيبال الذي ضرب عبدًا لا لسبب، كما يقول إيلياب: )إلّ ليريني أنه ابن الملوك(. ومعلّقًا على هذه الحادثة وهو يتحدث مع نفسه: )إن ورث العرش هذا الصبي لن تكون المملكة كما هي في عهد أبيه. هذا الصبي سيكون له شأن أكثر من آبائه(. مربط الفرس، أن الذين يحكمون الإمبراطورية الآشورية، بقدر ما يعنيهم إبراز قوة عضلاتهم على الضعفاء والفقراء، وغزوهم لبابل والعيلاميين ومصر، لا يعنيهم ما تلحقه اعتداءاتهم وغزواتهم بهذه الشعوب من كوارث ومحن، كما لا يعنيهم الاطلاع على ثقافاتها وحضاراتها.

لذا فمن الطبيعي جدًا أن يكرر مقطع )لعنة بابل( باندهاش، وكأنه يسمعها لأول مرة في حياته. مع أن آشور بانيبال كان قارئًا نهمًا، وأسس مكتبة باسمه. ولكن هذه الدهشة الغريبة الناجمة عن أسرحدون، وهو يقول: )لعنة بابل!(، نقيض للجملة التي تأتي بعدها، ولا تنسجم معها،

سيما عندما تقول زاكوتو لأسرحدون: )أنا أحبك لأنك تنظر إلى بابل مثل ما أنا أنظر إليها(. فلو كان أسرحدون ينظر إلى بابل مثلما تنظر إليها زاكوتو، لتخلى عن غزواته لها، ولما سقطت آشور، كما أن تعليق إيلياب على تصرف آشور بانيبال الصبي في ضرب العبد، ومقارنته بآبائه الملوك السابقين، بالرغم من أنه يوحي بعدم بلوغ غزوات أسرحدون غزوات الملوك الذين سبقوه، غير أنه لم ينج منها هو الآخر، من غزواته لبابل الذي يجاهر بأنها أخت آشور، بدليل أن والدته عندما دعته إلى مؤازرتها للقضاء على أخويه المتمردين، واستلام الحكم إثر مصرع والده، كان منهمكًا في إحدى غزواته.

)ينطلق السرد الذاتي من ثلاثة مستويات حكائية تتخذ ضمير المتكلم شكلً لها، أول هذه المستويات هو أن الضمير يأتي في حالة تعريف الشخصية بنفسها. أما المستوى الثاني من مستويات السرد الذاتي فيبرز في استخدام ضمير المتكلم المتصل الظاهر أو المستتر، والغالب عليه ضمير تاء الفاعل أو ياء المتكلم.( ) 4(. وما يهمنا نحن هو المستوى الثاني، لأن السارد يقوم بسرد حكايته كما جاء في التعريف السابق، حيث يبدأ بجملة: )ها قد تجاوزت الثمانين فأرى الثمانين حملً ثقيلً( التي استخدم فيها ضمير المتكلم المقرون بضمير تاء الفاعل. وفي هذه الجملة، وإن كان يتحدث بصيغة الحاضر إلا أنه في الجملة التي تليها مباشرة، يتحدث بصيغة الماضي، وهو يقول: )لم يبق معي من كان معي، بعد أن رحل أبي إلى الآخرة، وفقدت أغلب معارفي وأصدقائي(. ثم ينتقل ثانية ومباشرة إلى الحديث بصيغة الحاضر، وهو يقول:

)أصبحت أشعر أني وحيد وغريب عن الحياة(، وهكذا ينتقل السارد بين هاتين الصيغيتين في الجزء الأول من الوحدة الترقيمية للرواية،

إلى أن يستقر في الجزء الثاني من الوحدة، حيث تميل كفة صيغة الماضي على كفة صيغة الحاضر، وهو يشرع بالحديث عن المكان

الذي ولد فيه.

يقول الدكتور محمد صابر عبيد: )إن السرد القائم على التفكير يحيل على سطوة ضمير المتكلم، وهذه السطوة هي التي تتحكم ذلك أن المتكلم قد يضفي على معطيات الفكر ثوبًا موضوعيًا عقليًا مطابقًا، جهد المستطاع للواقع، ولكنه في أغلب الأحيان يضيف إليها بكثافات متنوعة. عناصر عاطفية قد تكشف صورة الأنا في صفائه الكامل تغيرها ظروف أجتماعية مردها أشخاص آخرين أو استحضار خيال المتكلم لهم() 5(.

ولو حاولنا نقل تجربة هذه السطوة إلى هذا النص، لنجد إنها تتطابق معه إلى حد كبير. وأعتقد أن هذه التجربة مثل ما تنطبق على

هذا النص، كذلك يمكن تطبيقها على معظم النصوص التي تتخذ من السرد الذاتي القائم على التفكير نهجًا لها. ولعل نزوع السارد من

بداية الرواية إلى المزج بين التاريخ والمتخيل التي تتناول أحداثًا وشخصيات تاريخية، جعل نزوعه هذا، أن يسطو الثاني على الأول إلى

حد ما، ويكسب الرواية وجهها الفني، من خلال استخدام التقنات المتمثلة في الإيحاء والأصوات المتعددة، فضلً عن السرد الموضوعي والمونولوج. ومضمونًا عبر تدشينها بشخصيات وأحداث متخيلة، وعدم التقيد بالأحداث التاريخية غير المهمة. لا وبل التصدي للجانب السلبي للإمبراطورية الآشورية، وإهمال الجانب الإيجابي.

وإذا كانت سطوة السرد الذاتي، هي التي تتحكم في نمط السرد وشكله وتعبيراته، فإن الراوي المشارك، كما في هذه الرواية الذي هو إيلياب، يلعب دورًا جوهريًا في أحداثها، فهو سارد داخل الرواية، كما يرد على سبيل المثال لا الحصر في هذه الجملة: )في الليالي المقمرة أخرج من مكمني إلى العراء، أنظر إلى القمر فأرى وجهها بالقمر(.

هنا يوجه السرد إلى مروي له غير ممسرح. وقد يروي السارد لمروي له ممسرح يتمثل في ذات المتكلم كما في المثال التالي: )قلت في نفسي، إن ورث العرش هذا الصبي وهو الآن ولي العهد لن تكون المملكة كما هي في عهد أبيه، هذا الصبي سيكون له شأن أكثر من آبائه(.

إن وظيفة السرد في المقطع الأول سردية، أما في المقطع، فهي للشرح والتفسير. وقد يتنحى السارد إذا كان متسامحًا، ليفسح المجال أمام بعض الشخصيات لتقوم بعملية السرد، ليتمظهر صوتها إلى جانب صوته، كما في هذا المقطع: )وهنا بدأ العبد يتكلم كلامًا لم أسمعه من قبل: «إنها قصة طويلة، فهي قصة الحرب بين الباطل والحق، بين العدل وظلم الأثرياء للفقراء، كنت حرًّا أملك أرضًا أفلحها وماشية وكوخًا أسكنه مع زوجتي وأولادي، فرحين بما تدره علينا من رزق، ورمتني الأقدار إلى أن يكون جاري من الأثرياء، فوضع عينه على الأرض التي أفلحها ليضيفها إلى ممتلكاته).

المصادر

1. الكوبيديا.

2. المصدر السابق نفسه.

3. معمارية النص الروائي . د. محمد صابر

عبيد و د. سوسن البياتي.

4 . عمان، الطبعة الأولى 2021 .

5. المصدر السابق نفسه.

6. المصدر السابق نفسه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Share via
Copy link
Powered by Social Snap